من المهم أن الرئيس عبد المجيد تبون أكد التزام السلطة السياسية في الجزائر بعدم السماح والتنازل عن الحقوق التاريخية للجزائريين والمستحقة على فرنسا، لأنه وفي لحظة سياسية ما، اعتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه حقق الإنجاز الذي عجز عنه قادة الإليزيه سابقاً، عندما أُعلن قبل عام ونصف العام عن التوصل إلى تشكيل لجنة مشتركة مكونة من مؤرخين اثنين، لكتابة تقرير حول خطوات معالجة ملف الذاكرة.
في الواقع، كان ذلك تدبيراً سياسياً ومجاملة لم تصمد لسبب وجيه، لأن الواقع التاريخي أكبر بكثير من أن يتم تناوله بهذه البساطة. ليست للجزائر وفرنسا نفس القواسم والدوافع المشتركة في مواقف ومسارات تاريخية اختارها كل منهما، وتصبح كتابة التاريخ المشترك كذبة سياسية باهتة يُراد لها أن تنطلي لتضليل الأجيال المقبلة وتهرّب فرنسا من استحقاقات ماضيها الاستعماري والتزاماتها التي ستبقى تطاردها في كل الأوقات. والكتابة المشتركة للتاريخ وهمٌ صاخب تحاول باريس منذ فترة أن تقنع به الجزائريين للجمع بين النقيضين، بما يجعل من الاستعمار والمقاومة في ورقة واحدة وسطر واحد، بينما هما لا يجتمعان إلا في ساحة يُهزم فيها الاستعمار أو تنتصر فيها المقاومة.
يُسمي الجزائريون ثورة نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 بثورة التحرير، لكن المدرسة الكولونيالية في فرنسا تسميها "أحداث حرب الجزائر"، لا يتعلق الأمر بمجرد تسمية، ولكن لأن كلاً منها مشبع بمحمول تاريخي ومعنى وقيم سياسية. يريد الفرنسيون جعل الثورة الجزائرية في الصورة والمنطوق حرباً دارت في زمان ومكان ما، لأن مفهوم الثورة يقود بالضرورة إلى وجود ثنائية الثائر والمحتل، يكفي ملف "الحركي" ليؤكد أيضاً ذلك بكل وضوح. من يعتبرهم المنطق - قبل الجزائر - عملاء وخونة، تكرّمهم فرنسا بصفتهم "شجعان"، ولذلك لا يمكن أن يجتمع الاستعمار ومفرداته بالمقاومة ومفرداتها. الاستعمار له سطره المكتوب بالظلم والطغيان والعبودية والجوع والقهر والتقتيل والإبادة واستغلال الإنسان والاستحواذ على الأرض، بينما المقاومة سطرها مكتوب بالدم والنضال والكفاح والعطاء للحرية للوطن والذود عن الأرض وتحرير الإنسان وكسر نصل الظلم، فكيف يجتمع النقيضان في سطر.
هل يمكن أن يكون للصهاينة سرّاق الحجر والشجر والأرض مثلاً تاريخ مشترك مع الفلسطينيين وكيف؟ لذلك فإن التاريخ المشترك كذبة سياسية يُراد لها أن تؤدي غرض التمويه على الماضي الاستعماري ووضعه في سياقات رخوة من قبيل تفاعل الشعوب والحضارات، وأخطاء الماضي في التواصل الإنساني والبشري، وغيرها من المفاهيم التي تريد المدرسة الكولونيالية الحديثة أن تكرّسها، ضمن سياق رومانسية سياسية حالمة تحاول القفز على الحقيقة لجهة تغليب المصالح. يمكن فهم ذلك من خلال فحص تجارب تطويع التاريخ (وجعله مشتركاً من باب أبناء العم) في مسارات التطبيع مع الكيان الصهيوني التي قفزت على الحق العربي وتكشفت على خيبة ووهم كبير.
الجزائريون لديهم تاريخ مشترك مع التونسيين نعم، في النضال والتحرير، ومع المغاربة في الكفاح ضد الاستعمار، وتاريخ مشترك مع الشعوب الأفريقية وشعوب أخرى تقاسمت مع الجزائريين عذابات الليل الاستعماري والنضالات العسكرية والسياسية، لكن الجزائر لا يجمعها التاريخ نفسه مع فرنسا، إلا تاريخ طويل من الظلم والدم لا يغمره حبر ولا تمحوه مصالح.