التاريخ الشفوي: النساء ذاكرة فلسطين الحية

26 مارس 2023
جدارية للتراث الفلسطيني على جدار استاد نابلس (نضال اشتيه/الأناضول)
+ الخط -

معرفة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للنكبة من خلال الوثائق الرسمية مهمة صعبة، نتيجة غياب السجلات والوثائق الرسمية المتعلقة بالأحداث التاريخية، التي مر بها الشعب الفلسطيني، وبسبب التزوير والتشويه الممنهج للحركة الصهيونية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وسيطرتها على الخطاب الرسمي العالمي، لذا أكتسب التاريخ الشفوي مكانةً مهمةً وكبيرةً بالنسبة للفلسطينيين، خاصةً؛ بعد بعثرة الذاكرة الوطنية الجماعية، في اتفاقيات التسوية بين القيادة الفلسطينية والاحتلال، منذ تسعينيات القرن الماضي.

يتعرض الفلسطيني لأبشع صور التنكيل والتدمير والاحتلال والإبادة في الأراضي المحتلة والشتات، لذا على المهتمين بإماطة اللثام والكشف عن واقع وحقيقة ما جرى ويجري في الشأن الفلسطيني، كشف زيف الرواية الصهيونية ونشره، من خلال البحث في الروايات غير الرسمية، من هنا أصبح التاريخ الشفوي ضالتهم لكشف الحقائق، خاصة في ما يتعلق بنضالات نساء فلسطين ودورهن في حفظ الذاكرة الجماعية، ومدى مساهمتهن في الحفاظ على الهوية الوطنية.

أهمل الفلسطينيون ومؤسساتهم؛ بعد النكبة، دور المرأة الفلسطينية، التي حصروها في أدوار خدماتية، خصوصاً في الفترة التي سبقت النكبة. جاء ذلك الإهمال لرواية النساء ضمن إهمال التاريخ المدون لصالح تاريخ السلطة، سواء كانت ذكورية أو استبدادية أو مراكز صنع القرار. هُمشت روايات النساء واستبعدت أدوارهن.

منذ اتفاقيات التسوية وطيلة سنوات السلطة الفلسطينية حدث تحولٌ جذريٌ في المجتمع الفلسطيني، الذي دجن على كافة المستويات، منه المرأة الفلسطينية

تصدرت رواية نساء فلسطين التاريخية واجهة التاريخ الشفوي، من خلال النساء أنفسهن، إذ وثقت رواياتها عن النضال الفلسطيني والمقاومة، التي شاركت بها قبل وبعد النكبة الفلسطينية، وأبرزت الأدوار التي لعبتها في مجالات عدة.

تاريخ نساء فلسطين الاجتماعي والاقتصادي
تندر المعلومات عن تاريخ نساء فلسطين في العقود الأولى من القرن العشرين، المستمدة من بعض مدونات نساء الطبقة الاجتماعية العليا، التي اختزلت دور المرأة في الجانب الاجتماعي فقط، كما انحصر الحديث عن نساء الطبقات العليا في المجتمع الفلسطيني، باعتباره تمثيلاً حياً عن تحضر المجتمع الفلسطيني وحيواته في مواجهة الرواية الصهيونية.

أي تركز الحديث على نساء النخبة في المدن وإهمال؛ ربما ليس متعمداً؛ نساء الريف ومشاركتهن في النضال الفلسطيني عامةً. لذا بحثت المؤرخات والباحثات في تاريخ المرأة الفلسطينية عن كتابات النساء أنفسهن، وروايات النساء الشفهية، لإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، وسد الثغرات في الرواية الرسمية الفلسطينية.

 

كان لنساء فلسطين في المدن الكبرى، خاصة بنات الطبقات العليا دورٌ كبيرٌ ومهمٌ في توثيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من عشرينيات حتى أربعينيات القرن العشرين، وفي توثيق مقاومة الشعب الفلسطيني لكل الأشكال الاستعمارية. أولى تلك الوثائق، كتاب متيل مغنم الصادر باللغة الإنكليزية في ثلاثينيات القرن العشرين، بعنوان "المرأة العربية والمشكلة الفلسطينية".

كذلك؛ وثق كتاب “النساء الفلسطينيات” للباحثة الفلسطينية فاطمة قاسم؛ أطروحتها للدكتوراه، الذي نشر في 2011، تجارب نساء فلسطينيات، ونظرة النساء الفلسطينيات في حقبة إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948، يتضمن الكتاب 37 مقابلة مع نساء من الرملة واللد، درس أثر النكبة عليهن.

أيضاً؛ وثقت الباحثة الفلسطينية فيحاء عبد الهادي المرأة ودورها السياسي عبر كتبها التي أصدرتها، كـ "أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات"، و "أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينيات، و"أدوار المرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى عام 1982"، الذي صدر في 2015، وتضمن 50 مقابلة مع نساء فلسطينيات من داخل فلسطين والشتات (الأردن، سوريا، لبنان، مصر).

 

أكتسب التاريخ الشفوي مكانةً مهمةً وكبيرةً بالنسبة للفلسطينيين، خاصةً؛ بعد بعثرة الذاكرة الوطنية الجماعية، في اتفاقيات التسوية بين القيادة الفلسطينية والاحتلال

لا يعتمد التاريخ الشفوي على روايات النساء المسموعة فقط، بل له مصادر عدة، كتب ومذاكرات، صور وأفلام، صحف ودوريات، أعمال أدبية وفكرية، أرشيف العائلات وسجلات النفوس وسجلات رسمية؛ رغم صعوبة الحصول عليها نتيجة مصادرتها من قبل الاحتلال الصهيوني.

من هذه المصادر كتاب أسمى طوبى الصادر بالعربية في الستينيات، بعنوان "عبير ومجد"، ثم مذكرات عنبرة سلام الخالدي الصادر في السبعينيات بعنوان "جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين"، بالإضافة الى مذكرات هالة السكاكيني، ووديعة قدورة خرطبيل، وسيرين الحسيني شهيد، والسيرة الذاتية للعالمة الصوفية فاطمة اليشرطية من عكا، التي كتبت سيرتها في القسمين الثاني والثالث من كتابها "مسيرتي في طريق الحق"، ومذكرات أوغسطين جوزي "العائلية"، التي كتبتها صاحبتها للأولاد والأحفاد.

تمكنت المرأة الفلسطينية في المدن خلال العقدين الأولين من القرن العشرين من إنشاء الجمعيات الخيرية، أولها في مدينة عكا في الـ1903، أطلقت عليها السيدات المؤسسات اسم "جمعية إغاثة المسكين الأرثوذكسية"، التي توقفت سنة 1916 في منتصف الحرب الكبرى.

 

في 1910؛ تأسست جمعية "عضد اليتيمات الاورثوذكسيات" في مدينة يافا، كان توجهها منذ البداية نحو تعليم الفتيات. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أنشئت عشرات الجمعيات الوطنية والخيرية والثقافية والصحية، من السيدات والفتيات المتعلمات ومن نساء الموظفين في حكومة الانتداب، وانصرفت جهودهن إلى الإصلاح الاجتماعي والعمل الخيري والثقافي، وتوعية المرأة وطنياً.

امتد إنشاء الجمعيات إلى الريف الفلسطيني، خاصةً في ثلاثينيات القرن العشرين، بجهود نسوية كان من أبرزها زليخة الشهابي وميليا السكاكيني من القدس، وأديل عازر من يافا، ومريم عبد الغني هاشم والحاجة عندليب العمد ومريم خليل وساذج نصار من حيفا، ونبيهة منسّى ورقية الكرمي من عكا، كما ورد في مذكرات وديعة خرطبيل الصادرة عام 1995.

أنشئت مدرسة بيرزيت في العام 1924، برئاسة نبيهة ناصر، وأصبحت لاحقاً جامعة بيرزيت، مثالاً واضحاً على مدى مساهمة المرأة الفلسطينية في النضال الفلسطيني، وفي حفظ الهوية الوطنية الفلسطينية الجماعية.

 

تمكنت المرأة الفلسطينية في المدن خلال العقدين الأولين من القرن العشرين من إنشاء الجمعيات الخيرية، أولها في مدينة عكا في الـ1903

نضال نساء فلسطين السياسي قبل وبعد النكبة
 شاركت المرأة الفلسطينية في المجال السياسي منذ وعد بلفور، عبر الجمعيات الخيرية والأهلية، وعبر التوعية والتعليم، لكن إبان الانتفاضة الفلسطينية ضد البريطانيين في 1936، خرجت النساء الفلسطينيات أفواجاً في المظاهرات، وشاركت في العمل العسكري عبر مساعدة الفدائيين بالإمدادات المختلفة اللوجستية والمادية، في الأرياف والمدن، كما شكلت لجان دعم مختلفة ووفودٌ نسائيةٌ للخارج بغرض الدفاع عن المسألة الفلسطينية في المؤتمرات الإقليمية والدولية.

دمرت نكبة 1948 النسيج المجتمعي الفلسطيني، والبنية الاجتماعية والاقتصادية التي شيدتها نساء فلسطين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ولم تنهض الحركة النسائية مرة أخرى إلا بعد تأسيس م.ت.ف، و الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في 1965، الذي ضم منظمات نسائية عدة، وأحيا بذلك الحركة النسائية الفلسطينية، التي قدمت خدمات اجتماعية واقتصادية، واضطلعت بجهود المناصرة والمؤازرة، استمرت تلك المنظمات بعد احتلال 1967 في تلبية احتياجات المرأة الفلسطينية والأطفال بوسائل عديدة، كمراكز صحية وجمعيات اجتماعية.

نجح الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في افتتاح فروع له في الشتات، وانخرطت المرأة الفلسطينية في المقاومة المسلحة أيضاً، وأنشأت معظم فصائل العمل السياسي والمقاوم الرئيسية معسكرات تدريبية خاصة بالثائرات الفلسطينيات.

في فترة الانتفاضة الأولى؛ ظهرت صور النساء والفتيات وهن يرشقن الحجارة، ويتحدين الجنود ويتقدمن المسيرات، وعكفت المنظمات النسائية على تعزيز مشاركة المرأة في العمل الاجتماعي والسياسي، الأمر الذي أتاح لها حركة أوسع خارج حدود المنزل.

بعد الانتفاضة الأولى بسنوات عدة، ضمَّ الوفد الفلسطيني المشارك في مؤتمر مدريد 1991 امرأتين، هما حنان عشراوي وزهيرة كمال، من أصل 21 عضواً، بعدها بسنوات لم يضم الوفد المفاوض في اتفاق أوسلو أي امرأة.

منذ اتفاقيات التسوية وطيلة سنوات السلطة الفلسطينية حدث تحولٌ جذريٌ في المجتمع الفلسطيني، الذي دجن على كافة المستويات، منه المرأة الفلسطينية، التي همشت واستبعدت من كافة المجالات الحياتية والنضالية في الداخل والشتات، واقتصر وجودها ودورها على التمثيل الصوري في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وفي مؤسسات المجتمع المدني، التي تحولت نتيجة التدفقات الأجنبية، إلى مؤسسات اعتمادية دون عمل حقيقي.

 

 شاركت المرأة الفلسطينية في المجال السياسي منذ وعد بلفور، عبر الجمعيات الخيرية والأهلية

تعرضت النساء في السنوات الأخيرة أثناء المظاهرات والاحتجاجات الفلسطينية إلى الاعتقال والاستجواب والمراقبة وتقييد الحركات الاجتماعية والهجمات الإلكترونية، واستخدمت السلطة أساليبَ تشابه أساليب الاحتلال لردع النساء عن المشاركة في النشاطات السياسية.