تُبرز الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في الجزائر في 12 يونيو/ حزيران الحالي، حالة من التمايز اللافت بين ثلاث كتل من مكونات الحراك الشعبي: كتلة أولى قرّرت العودة إلى قواعد الصمت بسبب الإحباط، فيما أبدت كتلتان موقفين مختلفين إزاء هذه الانتخابات. وقرّرت إحدى هاتين الكتلتين التمسك برفض المسار الانتخابي في البلاد (منذ نجاح الحراك في إنهاء عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة) بمحطاته الثلاث الرئاسية التي جرت في ديسمبر/ كانون الأول 2019، والاستفتاء على الدستور في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والانتخابات التشريعية المنتظرة خلال أسبوع. أما الكتلة الأخيرة، فأحدثت مراجعة طفيفة ضمن تكتيك سياسي، لا يعفي السلطة من مسؤوليتها في تعقد الأوضاع، لكنها تعتبر أن دخول البرلمان قد يمنح الحراك موقعاً متقدماً لمواجهة السلطة وتعطيل خياراتها وفرض التغيير السياسي.
ترى كتلة من الحراك أن المشاركة ستحدث تغييراً من الداخل
وعلى الرغم من مجمل هذه الظروف والمعطيات التي تحكم المشهد الجزائري في الوقت الراهن، فإن عدداً من الناشطين البارزين في الحراك الشعبي، قرّروا خوض المعترك الانتخابي، كأداة من أدوات التغيير الممكنة، بعد استنفاد خيار الشارع. ويأتي ذلك ضمن رؤية ترى إمكانية نقل الحراك من الشارع إلى داخل المؤسسات، وإحداث تغيير تدريجي من الداخل بفعل تصلب النظام وطبيعته، والحفاظ على الدولة في ظلّ تحديات صعبة.
التغيير من الداخل
وقبل أكثر من سنتين، كان عزّ الدين زحوف، أحد أبرز وجوه الحراك في العاصمة الجزائرية، ومن بين المحركين الميدانيين للتظاهرات في قلبها، وفي أكثر الأحياء الشعبية تمرداً على السلطة لدواع تاريخية وسياسية، وهما حيّا باب الواد والقصبة. وفي هذين الحيين، يتمركز أيضاً أنصار أكبر ناديين لكرة القدم في العاصمة، مولودية العاصمة واتحاد العاصمة، وهما ناديان أدى "الألتراس" (مجموع المشجعين) الخاص بهما دوراً بارزاً في التحضير للحراك الشعبي. لكن عزّ الدين زحوف قرّر الترشح للانتخابات البرلمانية المرتقبة بعد أسبوع في قائمة العاصمة لحركة "مجتمع السلم"، كبرى الأحزاب الإسلامية في الجزائر. وهو ينطلق في موقفه القاضي بالمشاركة في الانتخابات، على الرغم من اقتناعه بأن الظروف التي تحيط بالاستحقاق الانتخابي ليست مثالية، من قناعة بأن التغيير السياسي يستوجب المشاركة في كلّ فعالية واستخدام كل الأدوات الممكنة المؤدية للتغيير وتحقيق تطلعات الشعب والحراك.
يقول زحوف، لـ"العربي الجديد"، إنه ترشح "لإبراز طبقة سياسية جديدة من الشباب تمارس السياسة حقاً مع الشعب، وأنا ممن خرجوا في الحراك وكنا نرفع شعار السلطة للشعب، وأنا تقدمت إلى الشعب ليمنحنا سلطة التشريع والرقابة، كما نقول دولة مدنية، وأنا ترشحت لتحقيق تمدين العمل السياسي واستبعاد أي تأثيرات أخرى، وكنا نقول إن العصابة يجب أن ترحل وأنا نظيف اليد ونستهدف استبعاد العصابة من الحكم". ويلفت زحوف إلى أن "هناك العديد من ناشطي الحراك وداعميه ممن كانوا متمسكين بالمقاطعة، لكننا تمكنا من إقناعهم بجدوى المشاركة وقبلوا بذلك، والحراك ليس على كلمة واحدة. الحراك خسر كتلا كبيرة من الشعب. جزء من الحراك باقٍ وهو رافض للعملية الانتخابية، ولكنْ هناك جزء ثانٍ استقال من العمل السياسي، وجزء ثالث، وهو جزء معتبر، يقول إن الحراك مستمر بأشكال مختلفة، وأنا من هذا الجزء، ولذلك رفعت شعار حملتي الانتخابية من الميدان إلى البرلمان، شعار من الشارع إلى التشريع". وبرأيه، فإن "مقاطعة الانتخابات السابقة كانت موقفاً نقدياً، لكننا انتبهنا إلى أن هناك أمرا واقعا وعلينا التعامل معه، علينا أن نحاول وألا نترك الساحة فارغة".
ثقة معدومة
تبدو فكرة نقل الحراك من الشارع إلى داخل المؤسسات، والسعي للتغيير من الداخل مغرية بالنسبة للكثير من العاملين في الحقل السياسي، ومن المعارضين لخيارات السلطة والملتزمين بالمطلب الديمقراطي. ويعلن المرشحون، بمن فيهم وجوه معروفة في الحراك الشعبي منذ فبراير/شباط 2019، في خطابات حملاتهم الانتخابية، أنهم يستهدفون حمل مطالب الحراك إلى داخل البرلمان، للعمل على تحقيقها والسعي لتغيير التشريعات التي تمسّ الحياة اليومية للجزائريين، وتعزيز الحريات المدنية والسياسية، والاستفادة من الظروف والديناميكيات التي أفرزها الحراك على كل المستويات. لكن مثل هذا الطرح، يصطدم بالواقع والمآلات التي انتهت إليها تجارب سياسية جزائرية، انتهجت نفس الفكرة والمنحى، وجربت خيار المشاركة مع السلطة بهدف التغيير من الداخل منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لكنها استهلكت رصيدها السياسي، من دون أن تحقق مكاسب أو تشكل قيمة مضافة إلى المطالب الديمقراطية. وحدث ذلك لأسباب متعددة، بعضها ذاتية تخص مشكلات داخل المؤسسة الحزبية نفسها في الجزائر، وأسباب موضوعية تتعلق بطبيعة النظام السياسي المغلق على مجموعات الحكم، وتمركز الجيش والمؤسسة الأمنية في قلب ومحور صناعة القرار.
يبدي ناشطون عدم ثقتهم بالسلطة بعدما التفت على مطالبهم
وإذا كان زحوف قد استطاع إقناع قدر من الحراكيين بجدوى المشاركة في الانتخابات، وأنها محطة يمكن تحويلها إلى فرصة للتغيير، فإن كتلة أخرى تبدو أكثر تمسكاً بخيار المقاطعة، وتعتقد أن هذه الانتخابات المقبلة ليست سوى جزء من حلقة الالتفاف التي تقوم بها السلطة على الحراك الشعبي ومطالبه المركزية في تغيير سياسي حقيقي. وفي هذا الإطار، يفسّر الناشط في الحراك، البروفسور سيف الدين عبدي الذي يدرّس في جامعة الجزائر، والذي كان اعتقل خلال مشاركته في التظاهرات الأخيرة التي تنظّم كل يوم جمعة، هذا الموقف. يقول عبدي في حديث لـ"العربي الجديد": "صحيح أن الانتخابات هي الوسيلة الفعّالة المتوفرة التي تمكن الشعوب من التعبير عن آرائها واختيار ممثليها الذين تنبثق عنهم مؤسسات تمثيلية للشعب، لكن في الحالة الجزائرية، وبعد حراك 22 فبراير 2019 الذي أبهر العالم وتطلع فيه الجزائريون إلى تغيير حقيقي وانتخابات حرّة ونزيهة مختلفة عن السابق، حصلت عملية الالتفاف على مطالب الحراك". ويوضح أن ذلك "بدأ برفض كل المبادرات والاقتراحات التي رفعتها مكونات الحراك، ثم بفرض خريطة طريق لم تلق القبول لدى الشعب الجزائري، بدءاً بالانتخابات الرئاسية ثم الاستفتاء على الدستور". ويعتبر الأستاذ الجامعي أن أدوات الممارسة الانتخابية في حدّ ذاتها هشّة، إذ إن "تشكيلة ما يسمى بالسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات لا تلقى الإجماع والتوافق المطلوب في مثل هذه الفترات الحسّاسة، وتمّ تعيينها من قبل السلطة، وتمّت الاستعانة بوجوه من النظام السابق على شاكلة رئيس السلطة محمد شرفي". ويلفت عبدي إلى أنه "يمكن أن نلاحظ أيضاً استمرار تغوّل الإدارة وتحكمها في مختلف دواليب العملية الانتخابية. ولذلك نعتقد أن الانتخابات التشريعية تأتي في السياق نفسه الذي تمّت فيه الاستحقاقات السابقة، بل في ظروف أشد سوءاً أبعد ما تكون عن جو التنافس النزيه". وبرأيه، فإن ذلك يأتي خصوصاً "مع غلق الإعلام في وجه المعارضين، ورفض ترشح العديد من الكفاءات بمبررات واهية، بينها المشاركة في الحراك، وأيضاً الغلق السياسي عبر حملة التضييق والاعتقالات التي طاولت في حدود 200 ناشط، ومنع المسيرات بالقوة من خلال الزج بالمؤسسات الأمنية في التعامل مع مشكل هو بالأصل سياسي". ويعتبر عبدي بناء على ذلك أن الانتخابات المقبلة "طريق نحو المجهول، سيتشكل من خلالها برلمان سيكون أسوأ من برلمانات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وهو ما يتم في ظروف اقتصادية صعبة"، مشدداً على أنّ "المشكل سياسي محض، ولا معنى للذهاب للانتخابات من دون توافق حقيقي بإشراك الجميع".
وتحمّل بعض الأوساط السياسية والمدنية في الجزائر، بما فيها المشاركة في الانتخابات البرلمانية، السلطة مسؤولية توصل مكونات الحراك إلى قرار المقاطعة، بسبب حالة الإغلاق السياسي والإعلامي الذي فرضته، واستخدام القوة ضد المتظاهرين والقضاء ضد الناشطين، واستدعاء خطاب مكثّف بشأن المؤامرات ومحاولة توظيف ملف الإرهاب لتخويف الشارع. ويضاف إلى ذلك تعمد السلطة خلق حالة من القلق، عزّزت حالة الإحباط لدى الجزائريين من إمكانية حدوث تغيير سياسي، في مقابل رفضها تقديم خطاب طمأنة وإطلاق حوار وطني يقود إلى توافقات وطنية توفّر مناخاً وظروفاً أكثر جدية وهدوءاً لإجراء أول انتخابات برلمانية في البلاد بعد الحراك الشعبي. وفي السياق نفسه، تبرز مشكلة أخرى عزّزت القناعة لدى العديد من مكونات الحراك بمقاطعة الانتخابات المقبلة، وهي رفض السلطات اعتماد العديد من الأحزاب التي شكّلها بعض الشباب والناشطين وفعاليات الحراك بعد دعوة السلطة لهم لدخول معترك السياسة، وهو ما يفهم منه بالنسبة للحراكيين، رغبة السلطة في الإبقاء على اللعبة السياسية مغلقة في البلاد.
وتدعم مكونات سياسية منضوية في الحراك الشعبي خيار المقاطعة، وتبدي التزامها بالمطلب الديمقراطي عبر إسقاط النظام والذهاب إلى مرحلة انتقالية. وتبرز في هذا السياق "جبهة القوى الاشتراكية" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" وحزب "العمّال" وغيرها. لكن هذا الموقف يواجهه سؤال سياسي عن الأسباب التي كانت تدفع هذه الأحزاب ذاتها إلى تبني خيار المشاركة في مجموع الاستحقاقات الانتخابية السابقة، لإحداث التغيير السياسي والدفاع عن مطالب الشعب والديمقراطية، على الرغم من أنها كانت تتم في ظروف أكثر إغلاقاً وتحكمها قواعد التلاعب والتزوير وتنظمها الإدارة، مقارنة باستحقاق 12 يونيو المقبل الذي يُجرى للمرة الأولى تحت إشراف هيئة مستقلة للانتخابات.