الاقتصاد الفلسطيني بين التقويض والتبعية لإسرائيل

25 سبتمبر 2022
لافتة تطالب بالحقوق الفلسطينية في غاز البحر المتوسط (أحمد زاكوت/Getty)
+ الخط -

منذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994؛ وفق اتفاق أوسلو الذي وُقع بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية، تحضر جدلية العلاقة بين السياسة والاقتصاد بقوة في المشهد الفلسطيني. على الرغم من منح هذه الاتفاقية السلطة الفلسطينية الوليدة صلاحيات مدنية كاملة في المناطق المصنفة (أ وب)، وإدارة الموارد الاقتصادية في تلك المناطق، إلا أنها سلبت منها قدرا كبيرا من السيادة، من خلال حرمانها من السيطرة على المعابر الحدودية، وعلى الأراضي واستخداماتها في المنطقة المصنفة (ج)؛ تشكل 62% من إجمالي مساحة الضفة والقطاع في حينه، وعلى معظم الموارد الطبيعية (المياه والفضاء).

في مقابل هذه الصلاحيات والإمكانيات المحدودة، أصبحت السلطة مسؤولة كلياً عن تلبية الاحتياجات الحياتية، وعن تأمين حقوق جميع مواطنيها الأساسية (العمل والمسكن والرعاية الصحية والتعليم والغذاء ومرافق البنية التحتية وغيرها) في الضفة وغزة.

كان على السلطة منذ نشأتها العمل على سد أي عجز أو فجوة محتملة بين الموارد المالية المتاحة والاحتياجات، وفق هذه المعادلة الصعبة. توجد آليات دولية تقدم وتدير المساعدات؛ مستمرة حتى اليوم، تتغير هياكلها ووظائفها من وقت لآخر، وفق الظروف السياسية والاقتصادية الفلسطينية.

في إطار محددات اتفاق أوسلو المرحلي السياسية والأمنية الواسعة، وُلدَ بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي ينظم العلاقات الاقتصادية بين السلطة وإسرائيل في المجالات التجارية والمالية والنقدية وفي مجال العمل. من أبرز ملامح هذا البروتوكول ربطه الاقتصاد الفلسطيني مع نظيره الإسرائيلي تحت غلاف جمركي واحد، أي سلب قدرة السلطة الفلسطينية على التحكم بمعدل ضريبة القيمة المضافة، والرسوم الجمركية (مكونات هامة من السياسة المالية)، على معظم السلع والخدمات، الأمر الذي قارب بين مستوى الأسعار في السوقين، على الرغم من التباين الكبير في مستوى الأجور والدخل بينهما.

وفق البروتوكول؛ مارست إسرائيل جباية الجمارك والقيمة المضافة على مستوردات الفلسطينيين، وربطت تحويلها لخزينة السلطة لاعتبارات أمنية وسياسية تعسفية. كذلك يشترط موافقة إسرائيل على إصدار عملة وطنية، ما يعني حرمان سلطة النقد الفلسطينية من استخدام معظم أدوات السياسة النقدية الضرورية من أجل توجيه الاقتصاد. باختصار؛ أبقى البروتوكول معظم مفاتيح الاقتصاد الفلسطيني بيد إسرائيل.

رغم عدم التزام إسرائيل بتطبيق نصوص الاتفاق، علماً أنها أطاحت معظم بنوده، عبر استمرار سطوها وفرضها وقائع على الأرض تتناقض مع روح الاتفاق، ورغم الملاحظات العديدة المسجلة على الاتفاق والضرر الذي طاول الاقتصاد الفلسطيني منه، إلا أنه استمر إطاراً ينظم العلاقة الاقتصادية بين الجانبين على امتداد الـ 27 عاماً الماضية.

ساهمت هذه الترتيبات السياسية والاقتصادية المجحفة في استمرار؛ بل تعميق، تشوهات الاقتصاد الفلسطيني وفجواته الموروثة عن الاحتلال الإسرائيلي الطويل، على المستويين الكلي والقطاعي، كما في الحفاظ على تبعيته للكيان الإسرائيلي.

حققت السلطة إنجازات هامة، في مجال بناء مؤسسات الحكم الاقتصادي، إعادة تأهيل مرافق البنية التحتية، إصدار التشريعات الناظمة لحياة المواطنين في الضفة الغربية وغزة، تنشيط الحركة التجارية والاستثمارية، لكن بتكلفة مرتفعة نسبياً، نتيجة استمرار قيود الاحتلال وسياساته التعسفية.

لا تنبع مشكلة الاقتصاد الفلسطيني الأساسية من نصوص أو تطبيقات اتفاق باريس فقط، بل من مرجعيته السياسية والأمنية أيضاً، التي فرضها اتفاق أوسلو. من غير الممكن عزل مسار العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل عن مسار التسوية السياسية، كذلك إمكانية تطوير علاقة اقتصادية متكافئة وندية بين كيانين أحدهما يحتل الآخر، هو افتراض ثبت خطؤه وضعف منطقه، عند كل مواجهة سياسية أو ميدانية بين الطرفين، خارج مسار التسوية وفق الفهم الإسرائيلي.

لن تقبل إسرائيل نمو وتطور الاقتصاد الفلسطيني، بما يُمكِن الشعب الفلسطيني من الانعتاق من التبعية لها، ويُحرره بالتالي من ابتزازها وضغطها السياسي، الاقتصاد من وجهة نظر إسرائيل هو أحد ساحات المواجهة مع الفلسطينيين. كذلك من الخطأ الاعتقاد بحسن نية الجانب الإسرائيلي تجاه عملية التسوية العادلة.

يقودنا هذا التحليل إلى استنتاجين هما:

1) يتطلب تحويل مسار الاقتصاد الفلسطيني؛ من التبعية والانكشاف والهشاشة الراهنة إلى التمكين والانعتاق والتوازن، تغييراً جوهرياً في قواعد وأسس العلاقات السياسية والأمنية الراهنة مع إسرائيل، فمسار الاقتصاد يتبع المسار السياسي في الحالة الفلسطينية، لا العكس.

2) في إطار الوضع الفلسطيني السياسي والأمني، لا تتوفر فرص نجاح وديمومة أي مبادرة/جهد تسعى إلى تطوير الاقتصاد الفلسطيني، بل حتى لو نجحت، لن يساهم ذلك في تحقيق حل عادل وشامل لصراع تاريخي ومعقد كالقائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هدف الفلسطينيين النهائي هو الاستقلال والتحرر من الاحتلال لا الرفاهية الاقتصادية.

في كل مرة تتعثر فيها عملية السلام؛ التي طال عمرها وفقدت جزءا كبيرا من بريقها ودافعيتها، تظهر طروحات ومبادرات ترمي إلى إحياء هذه العملية وإقناع الطرفين بالعودة إلى طاولة التفاوض، بغرض الوصول إلى حل نهائي وشامل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

البحث عن حل الصراع من مدخل اقتصادي هو القاسم المشترك بين كل هذه الطروحات والمبادرات، أي أولوية الملف الاقتصادي على الملفين السياسي والأمني، هرباً من الصعب أو شبه المستحيل. تنطلق هذه المبادرات والطروحات من فرضية مفادها "إن تمكين الفلسطينيين من الحصول على عوائد اقتصادية منصفة من عملية السلام، يجعلهم أكثر تقبلاً لحلول سياسية أقل إنصافاً لهم".

أفرغت ممارسات إسرائيل الاتفاقات من مضمونها، بل فرضت وقائع جديدة؛ متمثلة في تسارع وتيرة الاستيطان وتهويد القدس، تتناقض تماماً مع أسس حل الدولتين.

بدأت عملية السلام على قاعدة الأرض مقابل السلام وانتهت بمعادلة الأمن مقابل الاقتصاد، بهذا تكون عملية السلام قد وصلت إلى أفق مسدود. يبدو الهدف الإسرائيلي حل الصراع التاريخي من طرف واحد، استناداً إلى الوقائع الجديدة على الأرض.

في مقابل انسداد أفق المسار السياسي، استمر مسار العلاقة الاقتصادية بين الجانبين دون تغيير جوهري، بل الأصح بقيت إسرائيل تتحكم بمسار هذه العلاقة، وفقاً لمصالحها واعتباراتها الأمنية والسياسية. كأن إسرائيل راغبة في الحفاظ على حالة التطبيع الاقتصادي مع الفلسطينيين، دون أن تُقدم أي تنازلات سياسية حقيقية، رغبة منها في إبقاء خيار الحل السلمي قائماً من البوابة الاقتصادية. هذا نموذج السلام الاقتصادي، الذي يتبناه اليمين في إسرائيل وتتساوق معه الإدارة الأميركية.

أمام هذه المعطيات، فكرت القيادة الفلسطينية بإعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، خصوصاً بعد انتزاع الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة في نهاية 2012، ترجم هذا التفكير والتوجه عبر تبني مجلس منظمة التحرير المركزي قراراً يقضي بإعادة النظر في العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، إلى جانب مطالبة السلطة بوقف التنسيق الأمني، في شهر مارس/آذار من عام 2015، ومؤخراً في شهر فبراير/شباط 2018. لم تترجم إلى فعل حقيقي على الأرض، رغم مرور فترة طويلة على هذه القرارات، أي بقيت العلاقات على حالها.

حددت الحكومة الفلسطينية الحالية؛ برئاسة محمد اشتية، هدفاً استراتيجياً يتمثل في الانفكاك الاقتصادي التدريجي عن الاحتلال الإسرائيلي وتخفيف حالة التبعية له. غير أن الوصول إلى علاقة اقتصادية ندية ومتكافئة مع إسرائيل، تضمن مصالح الطرفين دون إجحاف، يتطلب تغيير الواقع السياسي والأمني الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، وتسلبهم بواسطته معظم مظاهر السيادة على اقتصادهم ومواردهم وسياساتهم ومعابرهم وعلاقاتهم مع العالم الخارجي.

العلاقة الاقتصادية القائمة حاليا مع إسرائيل قسرية، بقوة الاحتلال العسكري، ليست طوعية استنادا إلى اتفاقات ثنائية قائمة على المنافع المتبادلة. كذلك إسرائيل ليست في وارد إعادة التفاوض حالياً مع الفلسطينيين على اتفاق اقتصادي جديد، يحل محل بروتوكول باريس، بمعزل عن مسار التفاوض السياسي والأمني، لأن إسرائيل تسعى دائماً إلى مقايضة أية تنازلات اقتصادية قد تقدمها للفلسطينيين، بمكاسب سياسية وأمنية تخدم رؤيتها لحل الصراع.

لا تملك السلطة في الوقت الراهن القدرة على فرض قواعد علاقة اقتصادية جديدة مع إسرائيل؛ من طرف واحد، أي أن خياراتها الممكنة والواقعية من أجل إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل تبدو محدودة، في ظل استمرار تمسك القيادة الفلسطينية بمسار المفاوضات ونتائجه والتزامها بالاتفاقات الموقعة.

أخيراً؛ يمكن أن نسوق بعض الحقائق الاقتصادية التي تكرست على الأرض؛ في مرحلة ما بعد أوسلو، بغرض التدليل على عمق التبعية الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي:

1)    اختلال صارخ في الميزان التجاري لصالح إسرائيل. تستورد السلطة من إسرائيل أو من خلالها أكثر من 70% من احتياجات السوق المحلي من السلع والخدمات (حوالي 6 مليارات دولار سنوياً). يشكل الاستيراد المباشر 30% من حجم المستوردات، يمر عبر المعابر الحدودية التي تسيطر عليها إسرائيل كلياً. معظم السلع والخدمات التي تستورد من إسرائيل أو من خلال المعابر التي تسيطر عليها، تُصنف أساسية وحيوية، ليست استهلاكية فقط، بل تخص عمليات الإنتاج والبناء أيضاً. السلطة مجبرة على استيراد جميع مصادر الطاقة والماء والإسمنت وجزء كبير من الخضراوات من إسرائيل. لا تملك السلطة خيارات جدية من أجل تعديل الهيكل التجاري الخارجي في الوقت الراهن. إضافة الى ذلك أكثر من 85% من صادرات السلطة (حوالي 1.2 مليار دولار سنوياً) تذهب إلى السوق الإسرائيلية.

2)    استناداً إلى المعطى الأول، تُحصل السلطة حوالي 70% من إيرادات خزينتها عبر المقاصة. المقاصة هي ضرائب قيمة مضافة ومشتريات وجمارك تجبيها إسرائيل، على الواردات من خارج الأسواق الفلسطينية، أو على مشتريات الفلسطينيين من إسرائيل، ثم تحولها إلى خزينة السلطة وفق آلية المقاصة المعمول بها في بروتوكول باريس. يدل هذا على مظهر آخر من مظاهر الارتهان والتبعية الاقتصادية والمالية. دون أموال المقاصة تجد السلطة نفسها عاجزة عن دفع فاتورة الرواتب والأجور! نتيجة فشل السلطة في إيجاد بدائل تمويلية للمقاصة في حال تعطلت آليتها بقرار فلسطيني أو إسرائيلي، يبدو اتخاذ السلطة قرارات تقود إلى وقف تلك الآلية حالياً أمراً صعباً وربما مستحيلاً، العلاقة المالية مع إسرائيل غير قابلة للمس أو التغيير إلا عبر اتفاق الطرفين.

3)    يكمن تجلي التبعية الاقتصادية الثالث في حجم العمالة الفلسطينية المنخرطة في الاقتصاد الإسرائيلي، أكثر من 180000 عامل، منهم حوالي 35000 عامل داخل المستوطنات، على الرغم من تجريم المرسوم الرئاسي الصادر عام 2010 العمل داخل المستوطنات. يعود سبب ارتفاع عدد العمال داخل إسرائيل إلى ضعف قدرة الاقتصاد الفلسطيني الاستيعابية، بسبب القيود الإسرائيلية على حركة الأفراد والبضائع ورأس المال، كذلك نتيجة استمرار سيطرتها على معظم الموارد فوق وتحت الأرض.

يتضح من هذا أن إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل بغرض الانفكاك عنها، وتخفيف حدة التبعية لها، في ظل استمرار الوقائع السياسية والأمنية على حالها مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة، إلا إذا قررت القيادة الفلسطينية انتهاج سبيل المواجهة الشاملة مع الاحتلال الإسرائيلي، دون أي اعتبار للأضرار الاقتصادية، التي قد تلحق بالفلسطينيين نتيجة ذلك!