لم يعد الإعلام يؤدي الأدوار التقليدية التي كان يضطلع بها في القرون المنصرمة، بل تحول إلى قوة محورية مساهمة في استقرار ورفعة أي مجتمع في حالة السلم، وسلاح فعال في حالة الحرب؛ يساند الأدوات العسكرية وفعل المقاومة الشعبية في البلدان التي تدافع عن أرضها وبقائها وتقرير مصيرها.
تحتل القضية الفلسطينية أهمية خاصة في أذهان أحرار العالم، وفي كيان أبنائها الذين يتوحدون صفاً متماسكاً في مجابهة الاحتلال الصهيوني، وعدوانه المستمر على الشعب والأرض والمقدسات الفلسطينية. الإعلام سلاحٌ فتاكٌ، بل أفضل الأسلحة التي يعتمدها الشعب الفلسطيني خلال مراحل صراعه مع الاحتلال الصهيوني في الحضور والتأثير، لكننا نعي أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى بكل شراسة لإيهام الشعوب باستحالة الانتصار عليه، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كي تسلم بواقع أن "إسرائيل" حتمية تاريخية. ذلك ما جعل الإعلام عنصر دعم حيوي للجبهة الداخلية الفلسطينية في أثناء تصديها للعدوان الصهيوني المتتابع، وفضح جرائم الاحتلال في حروبه المتوالية على قطاع غزة المحاصر براً وبحراً وجواً، ولا سيما بعد الطفرة الحاصلة في تكنولوجيا الإنترنت وانفجار وسائل الإعلام الجديد سريعة الانتشار وعميقة التأثير، التي أتاحت الفرصة أمام المواطنين والجهات الحكومية وممثلي المجتمع المدني من أجل توظيف هذه الأداة الإعلامية في تحقيق جملة من الأهداف الرئيسية في التصدي للعدوان.
من تلك الأهداف، نقل الحقيقة وفضح جرائم الاحتلال وانتهاكاته بحق النساء والأطفال والعزل الأبرياء بالصوت والصورة، إضافة إلى تعزيز الجبهة الداخلية ورفع الهمم وتقوية المجتمع ورص الصفوف، بما يضمن تجاوز هذا العدوان بأقل الخسائر والضحايا. كل ذلك مرهون بقيام الإعلام الفلسطيني بكل مكوناته وأطيافه بدوره الأساسي، في مواجهة الحرب النفسية والدعاية الإسرائيلية الهادفة إلى النيل من معنويات الأفراد وكسر المقاومة، وإضعاف الجبهة الداخلية، ونشر الإشاعات التي تثبط روح الجماهير المعنوية.
تمثل وسائل الإعلام خطورة بالغة الأهمية على مشروع الاحتلال الصهيوني. فهو يدرك دور الإعلام المتعاظم في فضح جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، ما يدفعه إلى الإمعان في القتل، واضعاً وسائل الإعلام في مرماه. لذا، يقتل الاحتلال الإعلاميين الفلسطينيين عمداً، بغرض تحييدهم عن ساحة الصراع وحجب الصورة وتشويه المشهد وقلب الحقائق، فهم يملكون سلاح الكاميرا، ذلك السلاح الذي يخشاه الاحتلال أكثر من خشيته البندقية، والشواهد في هذا المقام كثيرة، وآخرها أيقونة الإعلام، الصحافية شيرين أبو عاقلة.
يوثق المركز الفلسطيني للحريات والتنمية "مدى" خلال عام 2021 ما يزيد على 368 انتهاكاً ضد الصحافيين الفلسطينيين، من بينها 155 انتهاكاً مباشراً بين إصابات وقتل. لا يستطيع الإعلام الرسمي بمفرده مواجهة العدوان والتصدي له دون تكاتف الفصائل ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات المؤثرة مجتمعياً في هذا الجهد المعقد، عبر الحملات الإعلامية المركزة، التي تستهدف المجتمع الدولي والبلدان العربية والجبهة الداخلية قبل ذلك، بأكثر من لغة وأسلوب إعلامي (تلفزيوني، مطبوع، إذاعي)، بغرض إشراك هذه الأطراف الوطنية في معاقبة "إسرائيل"، والضغط عليها من أجل إيقاف عدوانها، وفضح جرائمها، وتقديم أدلة ملموسة لمحكمة الجنايات الدولية لاحقاً، تدين قادة الحرب في إسرائيل وتسهم في تقديمهم للعدالة الدولية، وتسهل محاكمتهم وملاحقتهم في الدول التي تسري فيها قوانين تعاقب على جرائم الحرب خارج البلد.
دون أدنى شك، يقدم الإعلام الفلسطيني رسالة سامية، في كشف وفضح جرائم الاحتلال على مدار تاريخ الصراع، بل يقدم التضحيات الكبيرة في كل محطة نضالية، ويشكل بوسائله كافة جيشاً من الأقلام والكاميرات والهواتف المحمولة، الساعية لتحقيق الهدف الأبرز، فضح الاحتلال الصهيوني وممارساته التي يرتكبها بحق شعب أعزل. كان للإعلام الالكتروني الدور الأهم في هذه المعركة، إذ وفر مساحات وأدوات للإعلاميين الفلسطينيين تمكنهم من التعبير عن رواية الأحداث الصحيحة، وهذا ما أطلع الرأي العام على جزء كبير مما تحاول "إسرائيل" إخفاءه وتحريفه. يكمن التغير الأبرز في هذا الصدد في تحول كل مواطن فلسطيني إلى إعلامي، يمتلك أدوات تصوير وتوثيق جرائم المحتل من حوله، مستخدماً الهواتف الذكية والكاميرات، فالصورة هي الشاهد الأكثر مصداقية، التي تنفي رواية الاحتلال المزيفة، وتنتصر على مبدأ "التصحّر الإعلامي"، الذي تحاول "إسرائيل" استغلاله من خلال السيطرة على منابع المعلومات حول العالم، وبالتأكيد تأتي محاربة المحتوى الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي في هذا الإطار.
موجز القول، أن وحدة الصف الفلسطيني، على الأقل إعلامياً في خضم العدوان، جعلت من الأداء الإعلامي وتغطية الأحداث عنصراً ناجعاً في التصدي للعدوان ولجمه وتقصير مدته، حتى في غياب استراتيجية إعلامية متفق عليها. فقد نجحت الجهود الإعلامية الفلسطينية المتكاملة، في تبادل أدوار متناسق بين المواطن والصحافي، في مواجهة العدوان، رغم التضييق ومحاربة المحتوى الفلسطيني، من قبل تطبيقات التواصل الاجتماعي.
وفق آدم شابيرو، رئيس مكتب الاتصالات والإعلام في منظمة "فرونت لاين ديفندرز"، عكفت شركات مثل فيسبوك على تكميم أفواه النشطاء وحجب محتواهم، نتيجة التطورات في فلسطين، فأصبحت أشبه بـ"دكتاتور رقمي". كذلك يوضح تقرير ترجم ونشر عبر موقع "عربي 21"، حذف ما يقرب من 7 آلاف منشور لنشطاء فلسطينيين بعد تدخل أجهزة الاحتلال الصهيوني مباشرةً، أو عبر التنسيق مع إدارة وسائل التواصل الاجتماعي. تمادت إدارة "فيسبوك" خلال شهر يونيو/حزيران الماضي في سياسة محاربة المحتوى الفلسطيني، إذ حجبت صفحات وكالة قدس برس، بعد أيام قليلة من تغطية الوكالة الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى. كذلك حذفت صفحة موسوعة المخيمات الفلسطينية، إحدى أكبر الصفحات التوثيقية الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي. وأغلقت صفحة الصحافي إيهاب الجريري، والصحافي علي عبيدات، وعشرات الصفحات والحسابات الفلسطينية الإعلامية والصحافية، بما يُشكل انتهاكاً فاضحاً لمبدأ حرية التعبير والعمل الصحافي. إضافة إلى التشويش الصهيوني على بث القنوات الفضائية الفلسطينية، واستهداف الصحافيين وقصف المقرات الإعلامية ووكالات الأنباء المحلية والدولية، تحت سمع وبصر العالم أجمع.
قصف 33 مقراً صحافياً منها ما دُمّر تدميراً كلياً، في مايو/أيّار من العام الماضي، أي خلال العدوان الصهيوني على قطاع غزة، فقد حولت غارات جوية صهيونية برج الجلاء الذي يضم مكتب شبكة الجزيرة، ووكالة "أسوشييتد برس" (Associated Press) الأميركية، ومكاتب كبريات وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وشركات مزودة لخدمات الإنترنت، إلى أثر بعد عين.
كل ذلك لا يمنع من إعادة تقييم أداء الإعلام الفلسطيني، بهدف الوقوف على نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف التي برزت في هذه التغطية، مثل الاعتماد على وسائل الإعلام الإسرائيلية في تمرير روايتها للمجتمع الفلسطيني دون قصد، ونقل الأخبار دون التأكد من مصداقيتها، وعدم العودة إلى المصادر الرسمية، كي نضمن استكمال النجاح النسبي الذي حققه الإعلام الفلسطيني في مختلف المجالات، كمواجهة وردع العدوان الصهيوني، ونقل جرائمه وفضحها أمام العالم، الذي يتعاطف مع شعوب ويتجاهل أخرى تحت الاحتلال، في ازدواجية مقيتة للمعايير الإنسانية.