فتحت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ووجود هذا العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين في قبضة المقاومة، الباب واسعًا أمام الحديث عن الأسرى الفلسطينيين سواء من احتمال الإفراج عنهم، أو بشأن أعدادهم وظروف اعتقالهم القاسية، وتجربتهم الفريدة داخل السجون ثقافيًا وسياسيًا وتنظيميًا وإنسانيًا.
في ذروة حملاتها العالمية، تقوم إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بإبراز الطابع المدني لأسراها، في مقابل شيطنة أسرى ومقاتلي الطرف الآخر/ الفلسطينيين، بالتزامن مع شن مديرية سجون الاحتلال هجومًا شاملًا وغير مسبوقٍ في مستوى عنفه وقسوته ضدّ الأسرى والأسيرات داخل السجون، من خلال إساءة معاملتهم، وتعمد إذلالهم، والاعتداء عليهم بالضرب المبرح، وسحب الإنجازات الحياتية التي كانوا قد انتزعوها عبر عقودٍ طويلةٍ من النضال الاعتقالي السلمي داخل السجون.
تمثّل هذه الحالة النادرة التي يوجد فيها، لأوّل مرّةٍ، هذا العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين (مستوطنين وعسكريين) لدى المقاومة، بكلّ ما يثيره هذا من اهتمامٍ دوليٍ، وحراك عالميٍ، تقوده إسرائيل، مناسبةً جيدةً للحديث عن الأسرى الفلسطينيين من زاوية نظرٍ مختلفةٍ، لا تحظى بالاهتمام الكافي واللازم فلسطينيًا، كما عملت إسرائيل على طمسها عمدًا، لا بل إنّ دولة الاحتلال تحاول أن تحاربها بمختلف الوسائل، لتترك انطباعًا خاطئًا ومضللاً عالميًا، وهو أنّ الأسرى الفلسطينيين ما هم سوى مجموعةٍ من القتلة، الإرهابيين المخربين العنيفين، الذي ينتمون إلى تشكيلاتٍ عسكريةٍ هدفها قتل الإسرائيليين واليهود، بهدف القتل فقط، وبدوافع عدوانيةٍ إجراميةٍ، أو ثقافيةٍ نابعةٍ من تربيتهم الدينية والشرقية العنيفة.
لطالما كانت الحقيقة بعيدةً جدًا عما تقوله إسرائيل، وعما تفعله، ولكن، هذا وحده لا يجعلها واضحةً وجليّةً، اذ يتطلب الأمر جهدًا استثنائيًا ونضالًا مستمرًّا من قبل الضحية، للكشف عنها وإظهارها للعالم.
هذا النوع من النضال السلمي واللا عنفي يحتاج إلى مقوماتٍ لا تمتلكها الجماعات العنيفة، أو الإرهابية غير المتجذرة في مجتمعٍ مقاومٍ
الحقيقة الثابتة، إنّ الأغلبية المطلقة (باستثناء فتراتٍ قليلةٍ في الستينيات وحتّى الثمانينيات، التي شهدت عملياتٍ لفدائيين عسكريين محترفين داخل الأراضي المحتلة، عبر الحدود الأردنية ومن ثم اللبنانية) من الأسرى والأسيرات الفلسطينيين هم من الوطنين المناضلين الذين خرجوا من بين صفوف المدنيين والنشطاء السياسيين والمجتمعيين والأكاديميين والوجهاء والأعضاء الحزبيين والجماهيريين الذين اعتقلوا بسبب نشاطهم ونضالهم ضدّ الاحتلال.
إن إخضاع المعتقلين والمعتقلات من قبل الاحتلال لمحاكم عسكريةٍ، تستند إلى قوانين الطوارئ، إلى جانب خطابها وسرديتها المضللة حولهم، يعزز الانطباع الخاطئ حول طبيعة نضالهم وتركيبتهم وخلفيتهم، إذ يخضع حتّى الأسرى الاداريون الذين احتجزوا لسنواتٍ طويلةٍ دون محاكمةٍ، أو دون تقديم لائحة اتهامٍ (50% من الأسرى الإداريين يمدد اعتقالهم الإداري لأكثر من مرّةٍ واحدةٍ على الأقلّ، وفق احصائيات مركز فلسطين لدراسات الأسرى) أمام قاضٍ عسكريٍ، وفي محاكم تمديدٍ عسكريةٍ، لإضفاء صبغةٍ عسكريةٍ على نشاطهم (غير المثبت ولا الظاهر سوى من خلال ملفاتٍ سريةٍ لا يطلعون عليها، لا هم ولا المحامون الذين يمثلونهم)، والإيحاء بأنهم نشطاء عسكريون.
وفق إحصائيات مؤسسة الضمير الحقوقية الفلسطينية، بلغ عدد الأسرى الإداريين حتّى السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2070 أسيرًا، أضيف إليهم ما يزيد عن 2500 أسيرٍ على خلفية حملات الاعتقال الواسعة التي أعقبت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، والعدد مرشحٌ للزيادة يوميًا، إذ يزج بهم في السجون احترازيًا بعد أن يتعرّضوا إلى حملات تنكيلٍ وتعذيبٍ ممنهجةٍ وقاسيةٍ في مختلف أماكن الاحتجاز في الضفّة الغربية، وفق تقريرٍ لمنظّمة العفو الدولية حول الاعتقالات التعسفية التي أعقبت عملية طوفان الأقصى، وهو ما أدّى إلى استشهاد خمسةٍ منهم خلال شهرٍ واحدٍ، جراء الضرب المبرح، والتعذيب الجسدي، وظروف الاعتقال القاسية.
إلى جانب الأسرى الإداريين الذين يعتبرون من الناشطين السياسيين والمجتمعيين والأكاديميين، ومن قادة الرأي والصحفيين وغيرهم، الذين يمثلون حوالي ثلث الحركة الأسيرة، هناك سبعة عشر عضو برلمانٍ (المجلس التشريعي الفلسطيني) ومائتي طفلٍ (من أصل 678 طفلٍ اعتقلوا خلال العام الحالي) دون الثامنة عشرة، و62 امرأةٍ.
إنّ هذه الأعداد، وحملات الاعتقال الضخمة التي تنفذها سلطات الاحتلال، تثبت الطبيعة المدنية الشعبية للأسرى الفلسطينيين، وتتنافى مع الادعاء الإسرائيلي بأنهم ينتمون إلى تشكيلاتٍ عسكريةٍ منظّمةٍ، ذلك أن بقية الأسرى (حتى من قام منهم بعملياتٍ عسكريةٍ) كانوا إما طلاب جامعاتٍ، أو عمالًا، أو مزارعين وموظفين في مؤسسات المجتمع المدني، أو في وظائف حكوميةٍ.
تنكيلٌ وانتقامٌ بعد طوفان الأقصى
انتهجت سلطات الاحتلال؛ منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، سياسةً متشددةً وعنيفةً، وقادت حملةً غير مسبوقةٍ ضدّ الأسرى الفلسطينيين داخل سجونها، مستهدفةً مكتسباتهم الحياتية، وحقوقهم التي اكتسبوها على مدار عقودٍ من النضال الاعتقالي الشاق، إذ تقوم هذه السياسة على التعذيب الجسدي والنفسي، والإذلال، والحرمان من التواصل، وعزلهم عن العالم. لخصت هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني هذه الإجراءات، ومن أبرزها:
1- منع الأسرى من إجراء مكالماتٍ هاتفيةٍ مع الأهل.
2- منع المحامين من زيارة الأسرى، ومن الاطلاع على أحوالهم منذ اندلاع الحرب.
3- منعهم من زيارة الأهل.
4- سحب جميع الأدوات الكهربائية من الأقسام.
5- منع الأسرى من الشراء من الكانتين.
6- سحب المواد التموينية كافّة، التي بحوزة الأسرى داخل زنازينهم.
7- تقليص كميات الطعام المقدمة من قبل إدارة السجن، وعدم تمكين الأسرى من تحسينه، أو من شراء بديلٍ عنه.
8- يتعرّض الأسرى إلى حملات دهمٍ، وتفتيشٍ مستفزٍ وعنيفٍ يوميًا.
9- تحويل معظم الغرف إلى زنازين، وسحب كلّ مقتنيات الأسرى، وأدواتهم الكهربائية.
تلخص تجربة الحركة الأسيرة ونضالها طويل النفس خلف القضبان، كما تركيبتها الجغرافية والتنظيمية والمجتمعية، حال وهيئة نضال ووجود شعب فلسطين
هذه الإجراءات، يضاف إليها وضعٌ صحيٌ صعبٌ، وعدم تقديم العلاج اللازم، أدت إلى استشهاد خمسة أسرى منذ بداية العدوان على غزّة.
بالإضافة إلى حملاتها داخل السجون، وضدّ الأسرى الموجودين داخل المعتقلات، شن جيش الاحتلال حملة اعتقالاتٍ إضافيةً، وصل عدد المعتقلين فيها إلى ما يقارب الثلاثة آلاف أسير، حولوا جميعًا إلى الاعتقال الإداري دون محاكمةٍ، وهم من قادة الرأي والناشطين السياسيين والمجتمعين والإعلاميين والأكاديميين ورجال الدين وطلبة الجامعات.
تفيد الشهادات الواردة من السجون بتعرّض الأسرى الجدد لعنفٍ جسديٍ، كما أجبر بعضهم، خاصّةً أثناء الاعتقال، على الوقوف للنشيد الوطني الإسرائيلي (هتكفا)، أو على المرور من تحت علم إسرائيل، وهي اجراءاتٌ أثنى عليها وزير الأمن الوطني الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، واعتبرها منسجمةً مع روح المرحلة الجديدة.
نضالٌ سلميٌ حضاريٌ
خاضت الحركة الوطنية الأسيرة؛ منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي وحتّى الآن، 26 إضرابًا مفتوحًا جماعيًا عن الطعام، بالإضافة إلى مجموعةٍ من الإضرابات الفردية، التي خاضها بعض الأسرى لكسر قرار اعتقالهم الإداري.
إن نمط النضال القائم على فكرة التوقف عن تناول الطعام، وإعلان العصيان السلمي ضدّ أوامر مديرية السجون، أو ما بات يعرف بالإضراب عن الطعام، يعد السلاح الاستراتيجي، السلمي وطويل النفس، الذي تبنّاه الأسرى كأداةٍ مقاومةٍ سلميةٍ في مواجهة ظروف اعتقالهم القاسية، ومن أجل تحسين شروط اعتقالهم، يعكس الطبيعة الجماعية والمدنية اللا عنفية لنضال الأسيرات، والأسرى الفلسطينيين خلف جدران السجون.
إن هذا النوع من النضال السلمي واللا عنفي يحتاج إلى مقوماتٍ لا تمتلكها الجماعات العنيفة، أو الإرهابية غير المتجذرة في مجتمعٍ مقاومٍ، وربّما أهمّها: ثقافةٌ مدنيةٌ راسخةٌ، وتربيةٌ نضاليةٌ تقدس العمل الجماعي، وحالة انضباطٍ وضبط نفسٍ صارمةٌ، وثقافةٌ عميقة الجذور، نابعةٌ عن الوعي بالدور المنوط بالجماعة المناضلة في اللحظة التاريخية التي تعيشها، من خلال الربط بين وجودها الخاص، ونضالها اليومي المعيشي، مع الأهداف العامّة وحركة مقاومة ونضال شعبها وقيادة حركته، كما أنّها تعكس وعيًا بالطبيعة الخاصّة بها، وبمميزاتها الحضارية والنضالية، مقابل معرفةٍ جيدةٍ بتكوين وتركيبة وطبيعة الآخر وأدواته وأهدافه.
تكرار الاضرابات المفتوحة عن الطعام، وعلى مدى عقودٍ من الزمن، يثبت أنّها ظاهرةٌ راسخةٌ وأصيلةٌ، وليست نزوةً عابرةً، أو تكتيكًا ارتجاليًا مؤقتًا، إنّها نمط حياةٍ وأسلوب نضالٍ، كما تثبت على المقلب الأخر عملية قمعها بالقوّة واعتماد سياسة التنكيل والإخضاع، طبيعة الاحتلال العدوانية، كما أن العنف هو أداته الوحيدة في مواجهة نضال ومطالب الشعب الفلسطيني في السجون وخارجها أيضًا.
نمط حياةٍ حضاريٍ منظّمٍ
لم يكن لهذا النضال الطويل أن يستمر ويحافظ على ديمومته ويحقق ما حققه من إنجازاتٍ ويفرض على قوّة الاحتلال تحييد أدواتها العنيفة، دون البيئة الراسخة ونمط الحياة المنظّم ومستوى الوعي الراقي والإنساني الذي جسده الأسرى في تجربتهم الطويلة خلف جدران السجون.
يعيش الأسرى داخل السجون حياةً غايةً في التنظيم الداخلي والذاتي، تشبه إلى حدٍّ ما أسلوب الحكم الذاتي، الذي تقوده مؤسساتٌ اعتقاليةٌ وأطر عملٍ ولجان اختيرت بأسلوبٍ ديمقراطيٍ وتعمل بروحٍ جماعيةٍ.
يتنظم الأسرى داخل السجون ويتوزعون معيشيًا على أسسٍ تنظيميةٍ حزبيةٍ، وهو ما يكسب وجودهم بعدًا سياسيًا تنظيميًا ووطنيًا، ويديرون العلاقات في ما بينهم بأسلوبٍ جماعيٍ متناغمٍ، ووفق معايير ديمقراطيةٍ تمثيليةٍ عادلةٍ ومتساويةٍ، كما أنّهم يغنون هذه التجربة العملية من خلال برامج تثقيف وتعبئةٍ وطنيةٍ وإنسانيةٍ غايةً في الرقي، وبأسلوبٍ حضاريٍ، أنتجت مئات الحالات الثقافية والإبداعية والأكاديمية والقيادية.
تقوم إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بإبراز الطابع المدني لأسراها، في مقابل شيطنة أسرى ومقاتلي الطرف الآخر/ الفلسطينيين
تثبت خصوبة وغنى هذه التجربة أن الطبيعة الشعبية والمدنية هي مكوّنٌ أصيلٌ في جينات الحركة الأسيرة، كما أنّها بعيدةٌ في جوهرها وطابعها العامّ عن صفات العسكرة، التي تحكمها النزعة العنيفة، والتمرد، والخضوع للأوامر، والتكتيكات القتالية.
لا تنفي الصفة المدنية والجماهيرية لنضال الحركة الأسيرة عن نضال الشعب الفلسطيني، والأسرى خاصّةً، صفاتٍ نضاليةً وكفاحيةً، مثل الروح القتالية، والاستعداد للتضحية بالنفس، وتنفيذ عملياتٍ ضدّ جنود الاحتلال، إلّا أنّها جميعها أفعالٌ وصفاتٌ تأتي في سياق الدفاع عن النفس، والتصدّي للعدوانية الإسرائيلية، ومحاولة جبي ثمنٍ منه، جراء جرائمه المتكررة، ومجازره ضدّ أبناء الشعب الفلسطيني الخاضع لاحتلالٍ عسكريٍ عنيفٍ منذ عام 1967.
لا يمكن فصل نضال الأسرى داخل السجون والتجربة الفريدة التي اجترحوها عبر عقودٍ من النضال التراكمي، والعمل الجماعي، عن الأدوار الوطنية والنضالية والكفاحية التي مارسها هؤلاء الأسرى خارج السجون (التي أدّت الى اعتقالهم)، إذ تعتبر السجون امتدادًا لحالة النضال عامّةً التي يخوضها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وحلقةً من حلقاته، إذ تصبح السجون ميدانًا نضاليًا يضم المناضلين ويعيد تأهيلهم ويزجهم في نضالٍ اعتقاليٍ يهيئهم لاستكمال دورهم ما بعد الاعتقال، وهو ما يعكس ويختزل طبيعة نضال كلّ الشعب الفلسطيني في مراحله المختلفة.
تلخص تجربة الحركة الأسيرة ونضالها طويل النفس خلف القضبان، كما تركيبتها الجغرافية والتنظيمية والمجتمعية، حال وهيئة نضال ووجود شعب فلسطين، كما أنّها تعد واحدةً من وجوهه الحضارية والكفاحية الرائدة عالميًا، وهو ما يجعل الاحتلال يحاول دومًا وباستمرارٍ استغلال كلّ فرصةٍ ممكنةٍ من أجل شيطنتها، وكتم صوتها، ومحاربتها على جبهتين: جبهة الصورة النمطية، والدعاية المضللة عالميًا، وجبهة الميدان داخل السجون، من أجل كسرها وإطفاء وهجها، الذي يفضح وجوده، وطبيعته العنصرية العدوانية وممارساته العنصرية العنيفة.