بعدما حاول النظام السوري الترويج لبدء عملية إعادة الإعمار في البلاد خلال الأعوام الأخيرة، لا سيما بعد الانتخابات التي شككت أوساط دولية بشرعيتها وأنتجت ولاية رئاسية جديدة لبشار الأسد عام 2021، يأتي الانفتاح عليه عربياً وإقليمياً من خلال عمليات التطبيع وإعادته للجامعة العربية، ليغريه بمزيد من التوجه نحو تجاوز العقوبات والمحاذير الغربية المفروضة عليه.
وفي الوقت الذي يصرّ فيه الغرب، الولايات المتحدة وأوروبا، على عدم البدء بعملية إعادة الإعمار حتى تحقيق الحل السياسي الشامل في سورية، وفقاً للمخرجات الأممية وفي مقدمتها القرار 2254، فإن الأسد وجد في قرارات التجديد الأخيرة لآلية إدخال المساعدات الأممية إلى البلاد، أي برامج "التعافي أو الإنعاش المبكر"، نافذة لاستجرار الأموال للاستفادة منها في بدء مرحلة إعادة الإعمار بغطاء المساعدات والأموال الأممية.
غريفيث يزور الأسد
وبرزت في هذا الإطار، زيارة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث إلى دمشق الإثنين الماضي، ولقاؤه الأسد. ونقلت "رئاسة الجمهورية" عن الاجتماع، أنه تطرق لـ"حشد الجهود لدعم مشاريع التعافي المبكر المرتبطة بعودة اللاجئين السوريين ومتطلباتها، وإبقاء ملف اللاجئين في إطاره الإنساني والأخلاقي".
وأضافت الرئاسة أن الأسد شدد خلال الاجتماع "على ضرورة عدم تسييس ملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، مؤكداً أن العودة السليمة للاجئين السوريين هي الهدف الأسمى لدى الدولة السورية، لكنه مرتبط بتوفير متطلبات إعمار البنى المتضررة في القرى والمدن التي سيعودون إليها، وتأهيل المرافق الخدمية بمختلف أشكالها، إضافة إلى ضرورة تنفيذ مشاريع التعافي المبكر الضرورية لعودتهم".
ربط الأسد عودة اللاجئين بتوفير متطلبات إعمار البنى المتضررة
في المقابل، عرض غريفيث أمام الأسد، بحسب الرئاسة، "خطة عمل المنظمة الدولية للمرحلة المقبلة من أجل دعم مشاريع التعافي المبكر في سورية وحشد الجهود للمساعدة في تأمين الظروف المناسبة لعودة اللاجئين".
مخاوف من التغاضي عن جرائم النظام
وفي هذا الإطار تكبر المخاوف من تغاضي الأمم المتحدة عن 12 عاماً من الحرب بما فيها من جرائم ارتكبها النظام، وتسليمه أموال المانحين الدوليين، الذين في معظمهم، أي الغربيين، لا يوافقون على إعادة الإعمار تحت إدارة الأسد، أو قبل إقرار الحل. وشهدت عمليات التجديد الأخيرة لآلية إدخال المساعدات الأممية إلى سورية، إقحام مصطلح "التعافي المبكر" أو "الإنعاش المبكر"، في نصّ قرار التمديد. وكان المصطلح حاضراً بالتشديد عليه في نصّ القرار الأخير الذي توصل إليه مجلس الأمن الدولي، ووافق عليه بالإجماع، بداية العام الحالي عندما جدّد الآلية لمدة 6 أشهر ستنتهي في العاشر من الشهر المقبل.
وبحسب ما يشرح "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، على موقعه الإلكتروني، فإن مصطلح "الإنعاش المبكر" أو "التعافي المبكر"، هو مقاربة لمعالجة احتياجات التعافي التي تبرز خلال مرحلة الاستجابة الإنسانية لأي حالة طوارئ، من طريق استخدام الآليات الإنسانية التي تتوافق مع مبادئ التنمية.
ويسمح هذا النهج، بحسب البرنامج الأممي، للناس بالاستفادة من العمل الإنساني، لاغتنام الفرص الإنمائية وتطوير نوع من المقاومة، وإنشاء عملية مستدامة للتعافي من الأزمة. وبحسب البرنامج، فإن التعافي المبكر هو في الوقت ذاته أمران: مقاربة للاستجابة الإنسانية تُركز عبر التنسيق المعزّز على تقوية القدرة على التكيف وإعادة التأهيل، وتعزيز القدرات، والمساهمة في حلّ المشاكل المزمنة التي فاقمت الأزمة، عوضاً عن زيادتها.
كذلك فإن مبدأ التعافي المبكر، بحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية، من ناحية ثانية، هو حزمة من الأعمال المبرمجة المحددة لمساعدة الناس في الانتقال من الاعتماد على المساعدات الإنسانية إلى التنمية.
ويشدّد البرنامج على أن "التعافي المبكر ليس أبداً مجرد مرحلة، بل هو عبارة عن عملية تعافٍ متعددة الأبعاد تبدأ في الأيام الأولى من الاستجابة الإنسانية". كذلك فإنها مقاربة "تعني التركيز على الملكية المحلية وتعزيز القدرات، واختيار التدخلات بناءً على فهم عميق لظروف الأزمة لتصحيح أسبابها ومكامن الخلل من الجذور، وكذلك النتائج المباشرة للأزمة، مع تقليص الأخطار والترويج للمساواة وتجنب التمييز من خلال الالتزام بمبادئ التنمية التي تسعى إلى بناء البرامج الإنسانية وتحفيز فرص التنمية المستدامة، بحسب البرنامج.
كما يهدف "التعافي المبكر" إلى "خلق عمليات استجابة ذاتية مرنة وبملكية وطنية لمرحلة ما بعد التعافي من الأزمة، ووضع إجراءات استعداد للتخفيف من آثار أي أزمات مستقبلية".
مصطلح "التعافي المبكر" يرمز إلى مبدأ واسع التأويلات والنشاطات التي يمكن تنفيذها تحت إطار تقديم المساعدات للشعب السوري
وبناءً على ذلك، فإن مصطلح "التعافي المبكر"، في قرار مجلس الأمن، يرمز إلى مبدأ واسع التأويلات ومروحة من الخيارات والنشاطات التي يمكن تنفيذها تحت إطار تقديم المساعدات للشعب السوري أو الجزء الأكبر منه المتضرر من الحرب، ولا سيما في مناطق سيطرة المعارضة السورية في الشمال.
غير أن أنشطة "التعافي المبكر" التي أصرّ الروس على تضمينها في قرارات التجديد الثلاثة الأخيرة، لا تزال تستهدف المناطق التي يسيطر عليها النظام، ما يسهم في تأهيل بعض المؤسسات الخدمية أو مشاريع تلك المؤسسات التابعة لبنية النظام ومؤسساته الحكومية بشكل أو بآخر.
وكان وزير خارجية النظام فيصل المقداد، قد ناقش هذا الجانب مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس خريف العام الماضي في مقر الأمم المتحدة، واشتكى المقداد للأمين العام، من أن بعض الدول تعرقل تنفيذ قرار مجلس الأمن القاضي بإدخال المساعدات بخصوص مشاريع "التعافي المبكر". وأشارت وسائل إعلام النظام حينها إلى تعهد غوتيريس "بالعمل على ضمان تمويل مشاريع التعافي المبكر، خاصة الكهرباء التي تعد من أهم القطاعات الحيوية وأنه سيتواصل مع الدول المعنية بهذا الشأن".
وشهد مؤتمر بروكسل للمانحين الذي انعقد منتصف الشهر الحالي، نقاشاً للموضوع بعد أن تمكن الاتحاد الأوروبي من جمع 10.3 مليارات دولار لتمويل العمليات الإنسانية في سورية. وعلمت "العربي الجديد" حينها، أن المؤتمر شهد جدالاً بما يخص نقاش مشاريع التعافي المبكر، وأن مسؤولاً من الأمم المتحدة دافع عن هذه المشاريع بما يتضمن تنفيذها في مناطق سيطرة النظام بكونها مشاريع إنسانية تتعلق بالتعليم والصحة والبنى التحتية.
وذكر الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة خلال المؤتمر "التدخل في مناطق الحكومة السورية"، في ما يخص مشاريع التعافي المبكر، بحسب مصادر "العربي الجديد" من داخل المؤتمر، علماً أن رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سورية دان ستوينيسكو، يفعّل التواصل مع مناطق سيطرة النظام أكثر من مناطق سيطرة المعارضة، ويجري زيارات مستمرة إلى دمشق.
وتعليقاً على ذلك، قالت المتحدثة الإقليمية باسم وزارة الخارجية الأميركية إليزابيث ستيكني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الولايات المتحدة، وكما قالت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، لا ترى أي مؤشر على أن نظام الأسد ملتزم بإنهاء المضايقات والاحتجاز التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة بحق العائدين". وأضافت: "يجب علينا الضغط على نظام الأسد لتهيئة الظروف لعودة آمنة وطوعية وكريمة للاجئين، وعلى البلدان التي استضافت ملايين اللاجئين بسخاء أن تمتنع عن الضغط عليهم قبل توفر الظروف المناسبة لعودتهم".
وشددت على أن "الولايات المتحدة لا تدعم إعادة إعمار من شأنها أن تصب في صالح المصالح الضيّقة لنظام الأسد"، مضيفة "لن ندعم إعادة الإعمار حتى يكون هناك تقدّم حقيقي ودائم نحو حل سياسي يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254".
ولفتت ستيكني إلى أن "الولايات المتحدة هي المانح الرئيس للمساعدات الإنسانية للشعب السوري، بما في ذلك المساعدات المقدمة للاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم"، مشيرة إلى أن "مساعداتنا الإنسانية تشمل تمويل برامج التعافي المبكر التي تنفذها وكالات إنسانية مستقلة ومحايدة على أساس الاحتياج لا غير، كما تضمن هذه البرامج حصول السوريين المحتاجين على وصول أكثر استدامة إلى الخدمات الأساسية".
ضمانات أمنية مطلوبة
وتعليقاً على الموضوع، قال عضو هيئة التفاوض السورية المعارضة، طارق الكردي، لـ"العربي الجديد"، إن "عودة اللاجئين مرتبطة أولاً بالضمانات الأمنية والتي لا يمكن أن تتحقق بدون توفير البيئة الآمنة والمحايدة لهم"، مضيفاً أن "اللاجئين الذين حاولوا العودة تم اعتقالهم واخفاؤهم، ما يؤكد أن إجبارهم على العودة هو إرسالهم للموت".
الكردي: عودة اللاجئين مرتبطة أولاً بالضمانات الأمنية التي لا يمكن أن تتحقق بدون توفير البيئة الآمنة لهم
وأشار الكردي إلى أن "النظام يحاول ابتزاز المجتمع الدولي بملف اللاجئين، ونحن نطالب بتطبيق البنود الأساسية للعودة، المعروفة ضمن مفوضية اللاجئين، ونراقب كل التحركات الأممية والدولية ولن نسمح بانتهاك حقوق اللاجئين". وقال إن "الكلام عن عودة اللاجئين قبل إنجاز الحل السياسي وتحقيق التغيير في سورية، هو مضيعة للوقت ومحاولات التفاف على القرارات الأممية"، موضحاً أن "أسباب اللجوء، هي ظلم هذا النظام وقتله للسوريين، وإذا لم يتم تغيير السبب الذي أدى إلى تهجيرهم، فلن تنجح هذه الجهات وسيكون الفشل هو طريقها".
من جهته، قال سامر ضيعي، المدير التنفيذي لـ"رابطة المحامين السوريين الأحرار"، الذي شارك باسم منظمته في مؤتمر بروكسل الأخير، إن "العمل المباشر مع النظام السوري في مشاريع الإنعاش المبكر يُعتبر مسألة حساسة بسبب العديد من المخاطر".
وأوضح لـ"العربي الجديد" أن تلك المخاطر تتلخص بعدة مخاوف، منها: "اولاً التفسير الخاطئ، إذ قد ترى بعض الدول أو المؤسسات الدولية في التفاعل المباشر مع النظام السوري شكلاً من أشكال القبول، باعتبار أنها تحمّل النظام مسؤولية الأزمة في سورية".
ثاني المخاوف بحسب ضيعي، "إساءة استخدام المساعدات، فقد يستخدم النظام المساعدات الموزعة لخدمة أهدافه السياسية أو العسكرية بدلاً من مساعدة من هم في أمسّ الحاجة إليها". وتابع: "ثالثاً تشجيع الفساد، فبدون عمليات رقابة ومراقبة مناسبة، قد يسيء النظام استخدام المساعدات الدولية لتعزيز الفساد في صفوفه، ورابعاً عقبات العودة الآمنة، فقد يؤدي التعاون مع النظام إلى تعقيد العودة الآمنة للاجئين والنازحين إذا شعروا أن المجتمع الدولي قد اعترف بالنظام الذي هربوا منه، خامساً، الموافقة الضمنية على الانتهاكات، بحيث يمكن النظر إلى التعامل المباشر مع النظام على أنه تأييد غير مباشر لأفعاله، مما قد يؤدي إلى المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان".
وبالنظر إلى هذه المخاطر، قال ضيعي، "يجب أن نفكر ملياً في كيفية دعم الشعب السوري بدون تمكين المزيد من الانتهاكات أو إعاقة الجهود العالمية لحل الأزمة. ويمكن أن يشمل ذلك التعاون مع المنظمات غير الحكومية والجمعيات المحلية والجماعات المجتمعية القادرة على تقديم المساعدة بطريقة تعزز حقوق الإنسان وتسهم في السلام والاستقرار الدائمين".
أما بالنسبة للقاءات الدولية مع الأسد، فأشار ضيعي إلى أن "الاجتماع مع زعيم متهم بارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان قد يضفي شرعية على أفعاله. ومن الضروري أن يرسل المجتمع الدولي رسالة واضحة مفادها أن أي شكل من أشكال انتهاك حقوق الإنسان غير مقبول، وأن الطريق إلى السلام يتطلب المساءلة والعدالة واحترام حقوق الإنسان".
سورية غير آمنة لعودة اللاجئين
من جهتها، أكدت المديرة الإقليمية لهيئة الإغاثة الإنسانية الدولية، هدى أتاسي، أن الأمم المتحدة لا زالت تصنف سورية غير آمنة لعودة اللاجئين، مضيفة لـ"العربي الجديد" أن "العودة تحتاج لتوفير الأمن والأمان للعائدين، الذين لم يخرجوا أساساً بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور، أو أنهم ينتظرون مشاريع التعافي المبكر للعودة، فالسجون لا تزال مليئة بالمعتقلين، والوضع الأمني سيئ جداً، وضمن هذه الظروف لا يمكن عودة اللاجئين".
أتاسي: الأمم المتحدة ما زالت تصنف سورية غير آمنة لعودة اللاجئين
وأضافت أتاسي أن "إمكانية استفادة الأسد من مشاريع التعافي المبكر غير ممكنة لأن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديهما موقف من هذا الشأن، وهذه المشاريع مع عملية إعادة الإعمار لن تكون إلا بعد حل سياسي".
لكن أتاسي أشارت إلى أن "هناك بعض المشاريع الخجولة لإعادة تأهيل البنى التحتية، مثل المياه والكهرباء، ونحن كمنظمات طالبنا بها لتشمل جميع المناطق السورية ليستفيد منها السوريون". وأعربت عن استغرابها من هذا الاجتماع، وطريقة طرح إعادة اللاجئين خلاله وربطها بملف "التعافي المبكر".
وينص قرار التمديد الأخير 2672 (2023) الذي ينتهي في العاشر من يوليو/تموز المقبل، على أن مجلس الأمن "يرحب بجميع الجهود الجارية، ويحثّ على تكثيف ما يتخذ من مبادرات إضافية من أجل توسيع نطاق الأنشطة الإنسانية في سورية، بما في ذلك مشاريع الإنعاش المبكر الهادفة إلى توفير المياه وخدمات الصرف الصحي والرعاية والتعليم والمأوى والكهرباء، حيثما كانت ضرورية، لاستعادة إمكانية الحصول على الخدمات الأساسية التي تضطلع بها المنظمات الإنسانية، ويدعو الوكالات الإنسانية الدولية الأخرى والأطراف المعنية إلى دعمها"، ومن المتوقع أن تتضمن عملية التجديد المقبلة، البنود ذاتها.