الأحزاب التركية الجديدة: هل يكفي خطاب "لا يمين ولا يسار"؟

11 ديسمبر 2020
يبقى العامل الهوياتي من أهم عناصر تشكيل الأحزاب (Getty)
+ الخط -

شهدت الحياة السياسية التركية في الأشهر الماضية ولادة أحزاب عدة من رحم "التحالف الجمهوري" الحاكم في البلاد، ومن رحم "تحالف الشعب المعارض"، تحديداً حزب "الشعب الجمهوري". وأظهرت تلك التطورات حصول تصدّعات في قطبي السياسة التركية المسيطرة على أصوات الناخبين في البلاد منذ نحو 20 عاماً. في السياق، شهد "التحالف الجمهوري"، بقيادة حزب "العدالة والتنمية"، انشقاقاً أفضى إلى تشكيل حزبي "المستقبل" بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، و"دواء"، برئاسة نائب رئيس الوزراء السابق، علي باباجان. في المقابل، أسس نائب رئيس "الشعب الجمهوري" السابق أوزتورك يلماظ حزب "التجديد" في يوليو/ تموز الماضي، وسط محاولات لتشكيل القياديين في "الشعب الجمهوري" محرم إنجة، ومصطفى صاري غول، حزبين منفصلين. وتأتي هذه التحوّلات في إطار تشكيل خريطة سياسية جديدة في البلاد بعد سنوات من سيطرة حزب "العدالة والتنمية" على الحكم.


يرى مراقبون أن البقاء على الحياد يجعل الأحزاب الجديدة من دون هوية

واللافت أن الأحزاب الجديدة التي تسعى للحصول على مكان لها في الشارع التركي، تتبنّى خطابات مختلفة عن المألوف، مؤكدة أن توجّهاتها ليست يمينية ولا يسارية، بل إن الدولة وقيمها هي في محط تركيزها. ويصبّ الأمر في إطار محاولة هذه الأحزاب النأي بنفسها عن حالة الاستقطاب السائدة، وتمسّك شرائح من الشعب بأيديولوجيات معيّنة. وتسعى الأحزاب الوليدة إلى تقديم مقاربة جديدة عبر إقناع الناخبين بضرورة التصويت لها في أي انتخابات مقبلة، مستندة إلى تكرار الأنباء عن احتمال إجراء انتخابات مبكرة، مع ولادة كل حزب، بسبب الأوضاع الاقتصادية السائدة في البلاد. لكن التحالف الحاكم طوى صفحة الانتخابات المبكرة، وسط اقتناع زعيمة الحزب "الجيد" المعارض ميرال أكشنر، أن المعارضة غير قادرة على الدفع نحو إجراء انتخابات مبكرة بسبب عدم امتلاكها الأغلبية الكافية لذلك في البرلمان الحالي. مع العلم أن الاحتمال الثاني لإجراء انتخابات مبكرة، غير الطريق البرلماني، هو دعوة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إليها. بالتالي تحوّلت الدعوات الانتخابية إلى جزء من استراتيجيات المعارضة للاستعداد المبكر لانتخابات عام 2023 الرئاسية والبرلمانية، والتي تحمل عنوانين "إطاحة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان" و"التوافق على مرشح رئاسي واحد". وهو ما دفع أركان المعارضة لعقد لقاءات مكثفة لهذا الغرض.

وحول الابتعاد عن الأجنحة اليمينية واليسارية في الأحزاب الجديدة، قال زعيم حزب "دواء" علي باباجان، لدى تأسيس الحزب: "لا نعرّف عن الحزب بأنه يميني أو يساري أو محافظ"، أما أحمد داود أوغلو فاعتبر أنه "لن يكون في تركيا بعد الآن سياسة مرتبطة باليمين أو اليسار، ولن يكون هناك تفريق بين الليبرالي أو المرتبط بقيم الدولة". أما المرشح الرئاسي السابق محرم إنجة، المتوقع تأسيسه حزباً منشقاً عن حزب "الشعب الجمهوري"، بعد أن بدأ بحركة سياسية جديدة، فشدّد في إحدى مقابلاته على أنه "لا نقول إننا يمين أو يسار، بل حزبنا جمهوري". بدوره، اعتبر صاري غول، الساعي لتأسيس حزبه الخاص، أنه "لن يكون الحزب الجديد وريث حزب الشعب الجمهوري أو حزباً يسارياً، ولن يشارك في التحالفات السياسية. إن مصطلح اليمين واليسار هي كلمات تعود لفترة الحرب الباردة (1947 ـ 1991)".

وتلفت طريقة طرح الخطاب الجديد وأسلوبه أنظار المراقبين والمتابعين، وتدفعهم للتساؤل ما إذا كان صائباً أو لا. ومن الواضح أن طريقة طرح الخطاب المنفصل عن الأيديولوجيات والتوجهات، تهدف إلى الابتعاد عن تبني خطاب أيديولوجي محدد يدفع بالناخبين للتوجه بشكل فوري إليها. مع العلم أن الاستقطاب وفقاً للشعور القومي، يبلغ ذروته حالياً في مختلف الدول، بما فيها تركيا. وفي وقت كهذا يرى مراقبون أن البقاء على الحياد يجعل الأحزاب الجديدة من دون هوية، رغم أنه من الضروري والمهم عدم حصول حالة من الجبهوية بين الأحزاب السياسية. يعلّل هؤلاء الأمر بتمسك الناخب بخيارات متجذرة نابعة من الانتخابات والاستقطابات السائدة، فعدا اليمين واليسار، هناك اتجاهات مثل القومية والمحافظة والعلمانية والمسألة الكردية ستكون حاضرة. بالتالي من الضروري التطرّق إلى هذه الاتجاهات من أجل جذب الناخب.

وتدافع الأطراف الداعمة لهذا الخطاب الحيادي بأن همّ المواطن التركي هو لقمة العيش والحالة الاقتصادية، في استنادٍ إلى نتائج الانتخابات المحلية التي جرت في عام 2019، التي تُظهر تأثر الناخب بالحالة الاقتصادية المتراجعة وانخفاض العملة وغلاء الأسعار. وهذه هي المقاربة التي تدفع بالأحزاب الجديدة للمراهنة على خطاب يسعد الناخبين، ويركّز على الاقتصاد تماماً، كما يفعل باباجان على سبيل المثال، بالحديث عن الإخفاقات الحكومية في الاقتصاد، خصوصاً أنه رجل الاقتصاد. في المقابل، يرى مراقبون أن هذه المقاربة غير كافية، لأن الناس يصوّتون وفقاً لهويتهم السياسية الأيديولوجية، وأن استمرار الأحزاب الكبيرة حالياً في البرلمان، يعود إلى تجذّر هويات محددة لدى بعض الكتل والشرائح الشعبية الداعمة لها. وتستمدّ تلك الأحزاب قوتها من هوياتها، فهناك القومي، وهناك القومي الكردي، وهناك الأتاتوركي، والمحافظ. بالتالي فإن الناخبين يحتاجون إلى خطاب يلامس معتقداتهم، كي يقترعوا للأحزاب الجديدة.

ويرجع مراقبون آخرون سبب هذه المساعي من قبل الأحزاب الجديدة إلى اعتقادها بأن هناك فئة معينة من الأحزاب الأم التي انشقت عنها ستصوّت لها بسبب حسابات ضيقة، خصوصاً ممّن لا تسعدها سياسات قيادة الأحزاب الأم. ولهذا السبب لا تزال هذه الأحزاب تحصل على نسبة أقل من 1 في المائة من الأصوات في استطلاعات الرأي، ولم تستطع تحقيق النسب الجيدة. بالتالي، إن على هذه الأحزاب التوجه أكثر إلى الشرائح الناخبة في الأحزاب الأم، بخطابات تلامس آمالها ومعتقداتها لتشكيل كتلة ناخبة خاصة بها. مع العلم أن كل الأحزاب الجديدة تعمل من أجل عودة النظام البرلماني إلى البلاد مرة أخرى بعد إطاحة أردوغان، وربما يكون هذا الهدف عنصراً جامعاً للمعارضة في الانتخابات المقبلة.


على الأحزاب الجديدة التوجه أكثر إلى الشرائح الناخبة في الأحزاب الأم

من جهته، رأى الباحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية، طه عودة أوغلو، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "النجاحات المتتالية التي حققها حزب العدالة والتنمية الحاكم على مدى 18 عاماً وضعت المعارضة التركية (اليمينية واليسارية) في موقف حرج أمام ناخبيها. وهو ما دفعها للتخلي عن خطاباتها التقليدية والسعي لتبنى سياسة هدفها إزاحة الحزب الحاكم عن السلطة، من خلال إقناع الناخبين بأن السلطة الحاكمة سلطة قمعية وتقصي أغلبية المجتمع". وأضاف أنه "في المقابل سعى الحزب الحاكم ومعه حليفه الحركة القومية للتصدّي لهذه المحاولات التي تبذلها المعارضة، وآخرها الأحزاب الجديدة التي ولدت من رحم العدالة والتنمية، أي حزبا داود أوغلو وباباجان. وعلى الرغم من تجمع جميع الأحزاب السياسية المعارضة خلال الأعوام الماضية تحت مظلة واحدة، وترشيحهم أعضاء مختلفين أيديولوجياً، إلا أنها لم تستطع الفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكنها نجحت في دقّ مسمار في نعش التحالف الحاكم بعد فوزها بالانتخابات المحلية العام الماضي".

بدورها، اعتبرت الكاتبة التركية كوبرا بار، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تأثير الأوضاع الاقتصادية المتراجعة ظهر على الناخبين العام الماضي في الانتخابات المحلية. وهو ما دفع الأحزاب الجديدة للابتعاد عن الأحزاب التقليدية، عبر تبنّي خطابات تظهر توجهاتهم بشكل واضح. فالأزمة الاقتصادية لا تزال مستمرة وحاضرة، والوضع المعيشي يؤرق المواطنين، ما أدى إلى ابتعاد هذه الأحزاب عن خطاب اليمين واليسار والقومي والعلماني والكمالي، وتلجأ إلى توجيه خطاب مباشر للشعب"، وأبدت اعتقادها بأن "هذه المحاولة لن تكون مؤثرة بشكل كبير، لأن على أي حزب أن يوضح هويته أمام الناخبين الذين يضعون بالاعتبار هذه الهوية أيضاً في التصويت، فلم تنفع نجاحات العدالة والتنمية في استمالة الكماليين، ولم تنفع خطابات الشعب الجمهوري المطمئنة المحافظين، وتبقى هناك مخاوف قومية لليمين وللناخبين الأكراد".