وصلت حركة طالبان إلى الحكم قبل عام، حاملةً وعداً بإحلال الأمن والسلام في أفغانستان التي مزقتها الحرب والويلات الناجمة عنها خلال أربعة عقود ماضية. لكن الأحداث الأمنية المتتالية، على مدى الأشهر الماضية، أثبتت أن الحركة تصطدم بما عانت منه الحكومات السابقة، إذ تواجه عمليات انتحارية واغتيالات وتفجيرات بعبوات ناسفة في مدن أفغانية مختلفة.
وفي خضم موجة أعمال العنف، يبرز تطور خطير وهو سلسلة العمليات التي تستهدف علماء ورجال الدين، وجلهم من الطائفة السنية ومن تيارات فكرية مختلفة، إذ يقضي بعضهم نتيجة أعمال انتحارية فيما يقضي آخرون بعمليات اغتيال.
وفي كل مرة، تُعلن حكومة "طالبان" عزمها على معاقبة الجناة وتوفير الحماية اللازمة لجميع علماء الدين، مع توضيحها (كما تشير إليه بيانات الحركة) أن "أعداء البلاد لن ينجحوا في محاولاتهم البائسة لإشعال فتيل حرب طائفية في أفغانستان".
استهداف المولوي مجيب الرحمن أنصاري من أبرز عمليات قتل علماء الدين في أفغانستان
اغتيال المولوي مجيب الرحمن أنصاري
شكل اغتيال المولوي مجيب الرحمن أنصاري، أحد أشهر علماء الدين الأفغان وأبرز الخطباء في غرب البلاد، نتيجة هجوم انتحاري في ولاية هرات، قبيل صلاة الجمعة في الثاني من سبتمبر/أيلول الحالي، من أبرز عمليات قتل علماء الدين في أفغانستان وآخرها.
وقد صدم الحادث أطياف الشعب المختلفة، وهز حكومة "طالبان"، نظراً إلى أن الرجل كان له نفوذ كبير في أوساط دينية وشعبية، وكان من أشد المؤيدين لحركة طالبان والمدافعين عنها، ليس فقط بعد وصول الأخيرة إلى الحكم، بل حتى قبل ذلك. إذ كان يدعو علناً، إبان عهد حكومة الرئيس السابق أشرف غني، لتطبيق الشريعة الإسلامية كما تريد "طالبان"، ومحاربة الأميركيين. بل كان يصف حكومة غني، وقبلها حكومة حامد كرزاي، بأنهما "عميلتان لأميركا".
وكانت حكومة غني منزعجة جداً من مواقف الرجل، وخاصة النائب الأول للرئيس السابق، وهو رئيس الاستخبارات السابق أمر الله صالح. وكما كان أنصاري ينتقد الحكومة الأفغانية ويعارض الوجود الأميركي في أفغانستان، كان يصف في الوقت نفسه تنظيم "داعش" بأنه إرهابي، وبأنه مشروع غربي يخدم مصالح غربية.
في الـ30 من شهر يوليو/تموز من العام الماضي، قال أنصاري، في خطبة جمعة، إن "طالبان على حق؛ ولا بد من استيلائها على ولاية هرات على أقل تقدير"، داعياً القائد الجهادي في الولاية، وهو وزير الطاقة في حكومة كرزاي، إسماعيل خان، الذي كان يقود المعارك ضد "طالبان" في ولاية هرات قبل انهيار حكومة غني، لأن يترك السلاح والحرب مع "طالبان".
وقد أثار حديث أنصاري وقتها حفيظة حكومة غني وأنصار الأخير. إذ وصف وزير الشؤون الدينية والأوقاف آنذاك، مولوي قاسم حليمي، في اليوم التالي، الرجل بـ"الخائن"، ودعا الحكومة إلى معاقبته، ولكنها كانت عاجزة عن ذلك، لأن أنصاري من أسرة علمية عريقة، ولها نفوذ كبير في غرب البلاد، كما كان الرجل من رواد المذهب الحنفي في المنطقة.
تنظيم "داعش" ليس الجهة الوحيدة التي تستهدف علماء الدين
سلسلة اغتيالات لرجال دين أفغان
وقبل أنصاري، قُتل عالم دين آخر يدعى المولوي أمير محمد كابولي، في عملية انتحارية داخل مسجد أبو بكر الصديق في كابول في 17 أغسطس/آب الماضي.
وكان العالم المستهدف، والذي قُتل معه 20 شخصاً آخرون، جلهم طلاب مدارس، من الطائفة الصوفية، وكان ينتقد بشدة سلوك بعض قيادات "طالبان"، خصوصاً المعارضين للتيار الصوفي، وكان يوجه انتقادات لاذعة لعالم الدين وعضو اللجنة العسكرية في الحركة المولوي رحيم الله حقاني. إذ كان الأخير من المعارضين لمن كان يصفهم بغلاة المتصوفة.
وكان رحيم الله حقاني، الملقب في أوساط حركة طالبان بـ"الشيخ والمفتي"، قد قُتل أيضاً قبل كابولي بأيام، وتحديداً في 11 أغسطس الماضي، داخل مدرسة دينية له في كابول، بعملية انتحارية نفذها تنظيم "داعش".
وقد هز اغتيال الرجل في قلب كابول قيادة "طالبان"، خصوصاً أن الانتحاري استخدم ساقه الصناعية لتفجير حقاني، الذي كان يزور معسكرات "طالبان" ويحث عناصرها على الجهاد، وذلك قبيل وصول الحركة إلى الحكم، وقد أصبح لاحقاً يدعو للحفاظ على الحكومة الإسلامية بعد سيطرة طالبان على كابول.
وفي أحد التسجيلات الأخيرة له وهو يخاطب القوات الخاصة في "طالبان" في أحد المعسكرات في كابول، يطلب من عناصر هذه القوات ألا يرحموا تنظيم داعش "لأنه أخطر على الحكومة الإسلامية من أي كيان آخر".
وبالإضافة إلى هؤلاء، استهدفت عمليات الاغتيال علماء دين آخرين من الطائفة السنية من مختلف الفئات والتيارات الفكرية؛ السلفية والصوفية والديوبندية (جماعة متأثرة بالصوفية).
ومن أبرز الذين تم اغتيالهم من السلفيين، كان المولوي سردار ولي ثاقب، الذي أُعدم ذبحاً في منزله في كابول في 14 يوليو/تموز الماضي. والرجل كان بايع حكومة طالبان وزعيمها، وكان انتقل إلى العاصمة من مدينة جلال أباد حيث كانت له مدرسة دينية كبيرة تسمى "دار العلوم". وكانت استخبارات حكومة أشرف غني تتهم المدرسة بأنها مركز لترويج السلفية ونفوذ "داعش" في المنطقة.
بعض القوى الإقليمية والدولية تجد أنه لا بدّ من أن تتحرك ضد الحركة من أجل الحفاظ على مصالحها
مخاوف من فتنة طائفية في أفغانستان
ومع أن أصابع الاتهام كانت تُوجّه بعد كل عملية إلى تنظيم "داعش"، إلا أن الأخير تبنى بعض تلك العمليات وليس جميعها، مثل تبينه عملية قتل المولوي رحيم الله حقاني، ما يشير إلى أن التنظيم ليس الجهة الوحيدة التي تستهدف علماء الدين، خصوصاً المؤيدين لـ"طالبان" والذين لهم نفوذ كبير، ومن مختلف الجماعات الفكرية.
وتظهر عمليات الاستهداف أن الهدف الأول هو النيل من حركة "طالبان" وكل من يساندها من رجال دين، بعد أن استطاعت الحركة، بعد أربعة عقود، أن توحّد أرض أفغانستان تحت سلطتها.
وتظهر تصريحات بعض علماء الدين وجود مخاوف من محاولات لإشعال حرب طائفية في أفغانستان. وفي السياق، قال مولوي فضل الرحمن أنصاري، وهو شقيق المولوي مجيب الرحمن أنصاري وتولى خلافته في مسجده ومدرسته، في كلمة خلال تشييع شقيقه، إن الأخير كانت له "وصية هامة أوضحها لكم، وهي الحفاظ على اللحمة الدينية والوطنية والاجتناب من الوقوع في الفتن".
وتابع: "إنه كان يقول لي دوماً إني إذا قتلت، فلا تقولوا إن قاتلي سلفي أو صوفي أو غيرهما، بل قولوا إن أعداء الإسلام قتلوني، إياكم والوقوع في فخ فتنة طائفية".
وفي السياق ذاته، قال الشيخ أحمد شاه، مدير المدرسة الدينية السلفية الشهيرة في شرق أفغانستان وزعيم التيار السلفي في أفغانستان، في كلمة له بعد مقتل العالم السلفي سردار ولي ثاقب في كابول في 14 يوليو الماضي، إن "هناك محاولة لإشعال فتيل حرب طائفية، من خلال الفتنة بين التيارات الدينية".
وأضاف أن "التيار السلفي لن يكون جزءاً من هذا الخلاف، وسنمضي على المنهج العلمي السليم ونعمل من أجل الحفاظ على اللحمة الوطنية، وهو ما أوصى به العالم سردار ولي ثاقب. من هنا، نترك التكهنات حول الجهات التي قتلت رمز التيار، لأن المضي قدماً في القضية لا جدوى منه".
إنعام الله سمنعاني: حكومة طالبان قادرة على احتواء القضية
وفي تعليق له على هذه الأحداث، قال عالم الدين الأفغاني المولوي محمد بلال، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "قضية اغتيال علماء الدين خطيرة وحكومة طالبان تدرك ذلك؛ لأن استهداف رجال الدين المشهورين ومن تيارات فكرية مختلفة، لا شك أنه محاولة لإشعال فتيل حرب طائفية ولا سيما بين السلفية والصوفية والديبوندية وغيرها من المسالك الموجودة في البلاد".
وأضاف أن "استخبارات دول المنطقة والاستخبارات الأجنبية الأخرى، وتحديداً الدول التي لها مصالح ولها عمق استراتيجي في المنطقة، لن تتخلى عن أفغانستان بهذه البساطة. لا تريد الكثير من دول المنطقة أفغانستان آمنة، وحكومة طالبان رغم كل الثغرات والمشاكل الموجودة فيها، إلا أنها تسيطر على كل البلاد وتوحدها تحت قيادة واحدة. وبالتالي، تلك الدول تسعى بكل حيلة ووسيلة لإرباك الأمن، وإشعال فتيل حرب طائفية كهدف أول، وقد يُستخدم تنظيم داعش كخير وسيلة لفعل ذلك، على غرار ما جرى فعله في سورية والعراق".
من جهته، لا يرى عضو اللجنة الثقافية في "طالبان" إنعام الله سمنعاني، في حديث له مع "العربي الجديد"، أن استهداف علماء الدين ظاهرة خطيرة، مضيفاً أن هذه الظاهرة "موجودة في بلادنا مع الأسف منذ القدم، وحكومة طالبان قادرة على احتواء القضية". وتابع "لقد تمكنا من إحباط عشرات عمليات الاغتيال، ونحن ما زلنا في طور التجهيز وبناء المؤسسات، وستتحسن الأمور في القريب، ولن يصل أعداء بلادنا إلى مبتغاهم".