لم تتغيّر طبيعة جورجيا منذ "ثورة الورد" عام 2003، مع إطاحة إدوارد شيفاردنادزه من رئاسة البلاد. التحولات التي حصلت بقيادة زعيم حزب "الحركة الوطنية المتحدة"، ميخائيل ساكاشفيلي، سمحت بنموّ حالة ديمقراطية نادرة في القوقاز. لكن تلك الحالة جوبهت بردود فعل إقليمية وغربية، بدءاً من إبداء روسيا مخاوفها من احتمال تحوّل البلاد، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، إلى مربضٍ لحلف شمال الأطلسي، وصولاً إلى ترقّب الغرب قدرة جورجيا، موطن جوزف ستالين، على مقارعة الروس وتمدّد الديمقراطية إلى كامل بلدان الاتحاد السوفييتي السابق.
سبق أن اتُهم ميليا بـ"التحريض على العنف" أثناء احتجاجات ضد الحكومة عام 2019
لكن جورجيا غرقت في معضلتها، فلا هي قادرة على الخروج من ظلال الروس، وهو ما تُرجم بحرب خاطفة شنّتها موسكو عليها عام 2008، ولا في وسعها الارتباط بالغرب "البعيد" والمرابط غربيّ البحر الأسود. وأدى ذلك إلى انغماس البلاد في دوّامة سياسية غير مستقرة: انتخابات، ثم تظاهرات، ثم اقتحامات لبرلمان أو مراكز حكومية، وغيرها من مظاهر الاضطراب، وهو ما تجدّد فجر أمس الثلاثاء. فقد اعتقلت الشرطة الجورجية زعيم "الحركة الوطنية المتحدة" المعارض، نيكا ميليا، أثناء عملية دهم عنيفة لمقرّ حزبه في تبليسي، مستخدمة الغاز المسيل للدموع. وأظهرت مشاهد نقلها التلفزيون في بث مباشر ميليا خلال اقتياده من مقر حزبه لوضعه في الحبس الاحتياطي قبل محاكمته. وفي تلك الأثناء استخدم المئات من عناصر شرطة مكافحة الشغب الغاز المسيل للدموع ضد أنصاره، وقادة جميع الأحزاب المعارضة الذين كانوا يتجمعون في المبنى منذ يوم الأربعاء الماضي، حسبما أظهرت مشاهد بثها تلفزيون "إمتافاري". وتم توقيف العشرات من أنصار المعارضة. وأثارت عملية توقيف ميليا غضباً في صفوف المعارضة وتحذيرات من الحلفاء الغربيين. وقال أحد قادة حزب "الحركة الوطنية المتحدة" غيورغي باتارايا لوكالة "فرانس برس" إن الشرطة "سرقت خوادم معلوماتية" كانت موجودة داخل مقر الحزب. وسبق أن اتُهم ميليا بـ"التحريض على العنف" أثناء احتجاجات ضد الحكومة عام 2019، وقد أطلق سراحه بكفالة وأمر بارتداء سوار إلكتروني لتعقب حركته. كذلك فُرضت عليه كفالة إضافية بمبلغ 40 ألف لاري (12 ألف دولار) في نوفمبر/ تشرين الثاني بعد أن أزال السوار. لكنه رفض دفع الكفالة الإضافية، واعتبر أن الاتهامات "ذات دوافع سياسية". وردت وزارة الداخلية الجورجية على التطورات في بيان، مشيرة إلى أن الشرطة استخدمت "القوة المتناسبة ووسائل خاصة" خلال هذه العملية. أما السفير البريطاني مارك كليتون فذكر على "تويتر": "أشعر بالصدمة للمشاهد في مقر الحركة الوطنية المتحدة"، مضيفاً أن "العنف والفوضى في تبليسي آخر ما تحتاج له جورجيا الآن. أحض جميع الأطراف على ضبط النفس".
انقلب رئيس الحكومة على الحزب الحاكم واستقال الأسبوع الماضي
وتمّت عملية الشرطة بعد استقالة رئيس الوزراء غيورغي غاخاريا الذي ينتمي إلى حزب "الحلم الجورجي"، يوم الخميس الماضي، بسبب قرار حزبه توقيف ميليا احتياطياً. وفي أعقاب استقالة غاخاريا، دعت المعارضة إلى انتخابات مبكرة، لكن البرلمان ثبّت تعيين وزير الدفاع إيراكلي غاريباشفيلي في منصب رئيس الوزراء، أول من أمس الاثنين. وفي خطاب له أمام النواب قال غاريباشفيلي إن الحكومة ستعتقل ميليا، مؤكداً أنه "لن يتمكن من الفرار من العدالة". ويفاقم اعتقال ميليا الأزمة السياسية التي تشهدها جورجيا منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي جرت وفقاً لنظام انتخابي جديد عزز نظام النسبية، سامحاً للأحزاب الصغيرة بدخول البرلمان، في حال حصلت على واحد في المائة فقط من الأصوات. لكن أحزاب المعارضة، التي قاطعت الجولة الثانية من الانتخابات، شدّدت على حصول عمليات تزوير، تحديداً بعد إعلان الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" فوزه. ويعتبر رئيس الوزراء الجديد موالياً لبيدزينا إيفانيشفيلي مؤسس حزب "الحلم الجورجي" عام 2012، والرجل الأكثر ثراءً في البلاد، ويشتبه في أنه يدير السلطة بشكل بعيد عن الأضواء. غير أن شعبيته تراجعت على خلفية الركود الاقتصادي والاتهامات بالمساس بالمبادئ الديمقراطية في البلاد، وهو ما سمح لساكاشفيلي بالتحرّك مجدداً، من منفاه في أوكرانيا، والضغط على الأحزاب المعارضة، لتغيير المعادلة في الداخل. واعتبر ساشاكاشفيلي أن إيفانيشفيلي يسيطر على 40 في المائة من ثروات البلاد، ويتحكّم بها. في السياق، يرى الخبير من معهد الأبحاث الأميركي "أتلانتيك كاونسيل" ماتيو بيرزا أن جورجيا وصلت إلى نقطة "تقول فيها أحزاب المعارضة بأنه لم يعد بإمكانها البقاء في البرلمان، لأن النظام الديمقراطي الجورجي قد حُطم"، ويبدي اعتقاده بأنه "من دون وساطة أكبر من الغرب، يمكن أن يصبح الوضع خطيراً جداً". مع العلم أنه في الأسبوع الماضي، دعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحكومة الجورجية إلى حل الأزمة سلمياً وضمان بقاء النظام القضائي بعيداً عن الانحياز السياسي.
(العربي الجديد، أسوشييتد برس، فرانس برس)