استعادة لمسيرة المهاتما غاندي في ذكرى ميلاده: ليس حكيم الهند وحدها

شوقي بن حسن
شوقي بن حسن
صحافي وكاتب تونسي. مساعد سكرتير تحرير في موقع "العربي الجديد".
02 أكتوبر 2021
+ الخط -

في كتاب خصّصه للمهاتما غاندي، كتب عالم الأنثروبولوجيا البلجيكي روبير دولياج: "لكل منا غاندي خاص به"، مشيراً إلى الأبعاد المتعدّدة، السياسية والدينية والثقافية وغيرها، التي اتخذتها شخصية الزعيم الهندي؛ إنها الأسطورة التي تكبر باستمرار وتقف وراء ذلك الجسد الضئيل.
غاندي الذي رأى النور في عام 1869، يصادف اليوم ذكرى ميلاده. هو في آن رجل السياسة الذي قاد مسيرة استقلال الهند، ورجل الحكمة الذي أشار ببناء علاقات أخرى مع العالم. ملهم حركات التحرّر والكرامة الاجتماعية. بالنسبة لآخرين، هو رائد من روّاد الفكر الإيكولوجي، وأيضاً نجم "معولمٌ". لم يعد ملك الهند وحدها، بل أحد رموز البشرية الحديثة.
لكن هذه الأسطورة لم تكن مجرّد زيّ جاهز ارتداه غاندي، لقد كان مسيرة طويلة من بناء النفس وانتقاء مصادرها. لقد وُلد غاندي لأسرة مثقفة في منطقة بوربندر، شمال غربي الهند. تنازعه في سنه اليافع رافدان ثقافيان؛ والدته المتديّنة التي دفعته إلى قراءات التراث الروحي الهندوسي، ووالده ذو التجربة الإدارية والسياسية الذي وضعه على مسالك معرفة الحداثة الغربية.
خلال سنوات تحصيله الدراسي في الهند، كان غاندي أقرب إلى الثقافة الإنكليزية منه إلى جذوره الهندية، واعتبر في بداياته أن تحرير الهند يمر من التشبّه بالغرب. خالف تعاليم الهندوسية سنوات بأكل اللحم، فقد كان مقتنعاً وقتها بأن أحد أسباب تفوّق الرجل الأبيض يعود إلى عاداته الغذائية، في حين أن التوجّه النباتي الذي يعتمده معظم الهنود سبب للكسل والتأخّر.
إنقلب هذا التصوّر رأساً على عقب حين سافر غاندي لدراسة القانون في لندن عام 1888. هناك أعاد اكتشاف الهند، وبات مقتنعاً بالنباتية خياراً، كما انهمك في فهم مصادر القوة الروحية للإنسان، ومن ثمّ أخذ يطوّر فكراً تحررياً يقوم على العناصر الثقافية العميقة لبلاده، ومنها نبذ العنف والنباتية.
لاحقاً، وتحديداً في 1893، استقر غاندي في جنوب أفريقيا حين عمل محامياً، وهناك تعرّف على الاستعمار في وجه آخر، وواجه قضايا كبرى مثل العنصرية والاستغلال. لكن انشغال غاندي الفكري بهذه القضايا كان يشوبه خلل عميق، ففيما كان يناهض عنصرية البيض تجاه الهنود، لم يكن يشجب عنصريتهم تجاه السود، وهي نقطة سوداء في مدوّنته كثيراً ما جرت الإشارة إليها بكثير من الاستنكار، حتى إن جامعة في أكرا، عاصمة غانا، نزعت في 2018 تمثالاً لغاندي في حديقتها بسبب كتاباته هذه. لكن بشكل عام، لم تبد على غاندي نزعة عنصرية، خصوصاً في تعامله مع المسلمين في بلاده (وقد دفع حياته ثمن هذا الخيار)، ولعله كان سينتبه إلى فداحة ما كتبه في جنوب أفريقيا لو جرى تنبيهه إلى ذلك.
في 1915، عاد غاندي إلى موطنه. وقد بدا وكأنه لم يعرف جيدا بلاده. فأخذ يتجوّل في مناطقها ليقترب من هموم الناس ويفهم تناقضات شعبه، وفي الأثناء، بدأ ينشر فكر المقاومة السلمية ومفاهيم نبذ العنف والعصيان المدني والمقاومة عن طريق الوسائل الاقتصادية. وفي 1928، بدأ العمل السياسي المباشر، وهو ما جعله عرضة للسجن عدة مرات.

آداب وفنون
التحديثات الحية

توّجت جهود غاندي ورفاقه بإعلان بريطانيا استقلال الهند في 1947، لكنه جاء على عكس رغبته حين جرى تقسيم الهند إلى بلدين؛ أحدهما ذو أغلبية مسلمة والثاني ذو أغبية هندوسية. ما حدث بعد الاستقلال كان خيبة أمل كبيرة لغاندي، فقد انفلت العنف بشكل صارخ في البلاد، وبدا أن المهاتما أقدر على توجيه شعبه زمن الاستعمار منه بعد تحقيق النصر، حيث لم تعد "وصفة نبذ العنف" تنفع.
لم يمنع ذلك غاندي من أن يصبح أيقونة عالمية، فقد كانت سياساته مصدر إلهام لنضالات الشعوب الأخرى للتخلّص من الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، ثم كان فكره حجر الزاوية في نضال الأميركيين من أصول أفريقية في معركة الحقوق المدنية.
اغتيل غاندي بعد أشهر من الاستقلال من قبل أحد المتطرفين الهندوس بسبب مواقفه التصالحية إزاء المسلمين، وربما كانت هذه النهاية الدموية سبباً إضافياً في انتشار أفكار المهاتما وتزايد رمزيته.