استراتيجية نتنياهو... من الاعتراف بـ"إسرائيل" إلى الاعتراف بالصهيونية

30 سبتمبر 2020
حرص نتنياهو على التأكيد أن لديه علاقات وثيقة مع أكثر من بلد عربي (أليكس ونغ/Getty)
+ الخط -

غاب عن رؤية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط، التي جرى الإعلان عنها مطلع العام الحالي، بوصفها "صفقة" للقرن، هدفها الأهم؛ تحقيق سلامٍ دائمٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حين منحت للإسرائيليين كل ما يحتاجونه، وتركت للفلسطينيين ما لا تهتم به إسرائيل. وفعليا، تناغمت تلك الرؤية مع استراتيجية رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الأيديولوجية والسياسية، ولم يتردد الأخير في أن يعلن ترامب كأول زعيم عالمي يعترف بـ "الحق التاريخي" لليهود في "يهودا والسامرة" الضفة الغربية المحتلة. 

وفي مقابلة مع صحيفة "إسرائيل هيوم" في أواخر مايو/ أيار الماضي، رأى نتنياهو في "صفقة القرن" الأميركية فرصة تاريخية لتغيير الاتجاه التاريخي الذي كان يطالب الإسرائيليين بالتنازلات: العودة إلى خطوط 1967 وتقسيم القدس المحتلة، إعادة لاجئين.. وأنه قد تم اليوم قلب الأمور فلم يعد الإسرائيليون مطالبين بالتنازل وإنما الفلسطينيون، الذين بات عليهم إذا ما أرادوا أن يكون لهم كيان خاص (قال متهكما: "وصفه الرئيس دونالد ترامب بدولة") أن يستوفوا شروطا صعبة، منها: الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية في المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن؛ القدس موحدة؛ عدم السماح بعودة أي لاجئ؛ عدم اقتلاع المستوطنات، سيادة إسرائيلية في مناطق واسعة في الضفة الغربية. وذهب إلى أنه على الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل حاكما أمنيا للمنطقة كلها.

نتنياهو على وشك أن يصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأكثر خدمة، منذ ديفيد بن غوريون "الأب المؤسس لإسرائيل"

ومنذ انطلاق جولات مسؤولي الإدارة الأميركية لإنضاج رؤية ترامب - نتنياهو، حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على التأكيد أن علاقات وثيقة تربط دولة الاحتلال الإسرائيلي بمزيد من الدول العربية. وبعد الاحتفال الذي شهده البيت الأبيض بتطبيع علاقات دولتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين مع إسرائيل، أواسط الشهر الجاري (أيلول/ سبتمبر)، تبدو استراتيجية نتنياهو، التي تجسدت طوال سنوات في السياسة الإسرائيلية، الخارجية والداخلية، والتي أعلن نتنياهو عن خطوطها العريضة في غير مناسبة، استثمارا ناجحا، حتى الآن، لدولة الاحتلال ولنتنياهو شخصيا. نحاول هنا أن نقدم مقاربة لتلك الاستراتيجية نراها مرتكزا لأي استراتيجية فلسطينية وعربية قادرة على المواجهة، ولا تزال غائبة حتى اليوم.

من بن غوريون إلى نتنياهو
في شهر أيار/ مايو من العام 2012، كان بنيامين نتنياهو موضوعاً لقصة غلاف (COVER STORY) مجلة "تايمز" الأسبوعية، التي كتبها مدير التحرير، ريتشارد ستينغل، ورأى فيها أن نتنياهو على وشك أن يصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأكثر خدمة، منذ ديفيد بن غوريون "الأب المؤسس لإسرائيل"، من دون أي منافس وطني، وأنه بات يقف على أعتاب التاريخ، وتساءل ما إذا كان سيبقى أسيرا لذاك التاريخ أو أنه سيكتب فيه فصولا جديدة، فهو يحمل معه ذكرى خدمته العسكرية، والذاكرة الأكثر إيلاماً لوفاة شقيقه الأكبر يوني، ويحمل معه أيضًا إرث تعاليم والده، الأكاديمي الصهيوني الأبرز، الراحل بنسيون نتنياهو، الذي نظر إلى التاريخ اليهودي بوصفه سلسلة متعددة من الهولوكوست، معتقدا أن اللاسامية هي مسألة عضوية أكثر من كونها مسألة ثقافية. اعتقد ستينغل أن نتنياهو هو الشخصية الأكثر قدرة على التعامل مع تحدّيين جيوسياسيين أساسيين يواجهان إسرائيل: التهديد النووي الإيراني، والتحدي الدائم المتمثل في إقامة سلام دائم مع الفلسطينيين. ورأى أنه متشدد بالنسبة إلى الأول، أما بالنسبة إلى الثاني، فيراقب احتضار عملية السلام مع الفلسطينيين.

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي، وضع ديفيد بن غوريون "استراتيجية دول الطوق الثاني"، التي تقوم على أن تحالف إسرائيل مع دول شرق أوسطية لها مصالح مشتركة مع "الدولة اليهودية" ولا حدود لها معها

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي، وضع ديفيد بن غوريون "استراتيجية دول الطوق الثاني"، التي تقوم على أن تحالف إسرائيل مع دول شرق أوسطية لها مصالح مشتركة مع "الدولة اليهودية" ولا حدود لها معها، يمكّن من كبح النيات العدوانية للدول المجاورة، مثل التحالف مع شاه إيران، وتركيا، ومساعدة الأكراد... إلخ. اليوم يعيد بنيامين نتنياهو تحديث هذه الاستراتيجية، ويحاول قلب المعادلة الأساسية التي سادت على طول الصراع العربي الإسرائيلي، ومفادها أن السلام مع الفلسطينيين سيدفع باتجاه مصالحة واسعة بين إسرائيل والعالم العربي، معتقدا أن الأمر اليوم يسير في الاتجاه المعاكس، وأن المصالحة الواسعة بين إسرائيل والعالم العربي قد تساهم في دفع السلام الإسرائيلي الفلسطيني. وطالما رفض نتنياهو مبادرة السلام العربية التي طرحت العام 2002 والتي جعلت اعتراف الدول العربية بإسرائيل مشروطا بانسحابها إلى خطوط العام 1967، ودعا إلى تعاون إقليمي مع الدول العربية التي ليس لها مشاكل جغرافية مع دولة الاحتلال، معتقدا أن الظروف الحالية، ممثلة بالنزاعات الإقليمية وما ينجم عنها الآن ولاحقا من مآس إنسانية وسياسية عديدة سوف تصرف الانتباه عن المسالة الفلسطينية، وأن معظم دول العالم مستعدة للتعايش مع المسألة الفلسطينية وهي معلقة في الهواء. 

إدارة الصراع وحل الدولتين
أيديولوجيا، وجد نتنياهو في "أوسلو" خطرًا استراتيجيًا ينبغي تجنبه، ولكنه على الصعيد السياسي حاول إدارة الصراع مع الفلسطينيين بحسب المتغيرات المحلية والفلسطينية، الإقليمية والدولية، ولم يكن لديه مشكلة في العودة إلى طاولة المفاوضات بوصفها جزءاً من تكتيك "العودة إلى التفاوض"، والخوض في جدل عقيم، لكنه مفيد لخفض التوتر الداخلي والخارجي، محولا العملية التفاوضية من أداة للتوصل إلى تسوية سياسية إلى وسيلة ناجعة لتكريس الوضع القائم، الذي لا يترك في النهاية للفلسطينيين ما يفاوضون عليه. في كل مرة كان نتنياهو يضيف شروطا جديدة على الفلسطينيين الانصياع لها: الضمانات الأمنية؛ مكافحة "الإرهاب"؛ الاعتراف بـ"دولة يهودية" شرطاً أساسياً لحل الدولتين. ووجد دائما مبررات للانسحاب من المفاوضات أو تعليقها، تارة بحجة دعم السلطة الوطنية الفلسطينية لعائلات الشهداء والأسرى، وتارة أخرى متذرعا بالمصالحة الجارية بين "فتح" و"حماس"...وغيرها.

باتت معظم جهود السياسة الخارجية الإسرائيلية تصب في صالح محاولة إضفاء شرعية دولية على الرواية التاريخية الصهيونية

كانت ذرائع الأمن طريقا أساسيا لتقويض حل الدولتين، الحل الذي أقر به نتنياهو لأول مرة  في 14 يونيو/ حزيران 2009 (خطاب بار إيلان 1)، وبدا ذلك دفعة على الحساب لإدارة أوباما التي توقع منها نتنياهو أن تشنّ هجوما عسكريا على منشآت إيران النووية، لكنه تخلى عن هذا الحل، وعمد إلى نسف أسس المفاوضات مع الفلسطينيين حين تأكد أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لن يتحرك عسكرياً ضد إيران، وأستبعد بعد أربع سنوات ونيف "خطاب بار إيلان 2"، إمكانية الاتفاق مع الفلسطينيين الذين يرفضون الاعتراف بيهودية الدولة، وبترتيبات أمنية بعيدة المدى، على رأسها بسط السيادة الإسرائيلية على غور الأردن (رغم تأكيدات خبراء عسكريين إسرائيليين عدم وجود حاجة جوهرية إلى منطقة غور الأردن، وأنه يمكن حماية إسرائيل من دون هذا الشريط )، ثم سعى إلى سَنّ قانون أساس يعتبر إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي، ودفع الهيئة العامة للكنيست إلى المصادقة بالقراءتين الثانية والثالثة (يوم 12 آذار/ مارس 2014) على قانون جديد يقضي بإجراء استفتاء عام قبل التنازل عن أراض خاضعة للسيادة الإسرائيلية، بهدف التضييق على أي تسوية مع الفلسطينيين وإفشالها.

الأيديولوجيا: حسم الصراع
مع مضيه قدما في إدارة الصراع لم يتخل نتنياهو عن قواعده الأيديولوجية التي فرضت حسما لهذا الصراع، وباتت معظم جهود السياسة الخارجية الإسرائيلية تصب في صالح محاولة إضفاء شرعية دولية على الرواية التاريخية الصهيونية. ففي "خطاب بار إيلان 2 " رفض نتنياهو أن تكون القضية الفلسطينية لبّ الصراع في الشرق الأوسط، فهو كلام يبدو برأيه اليوم "مسخرة"، فالقضية الفلسطينية ليست جوهر الصراع الحاصل في ليبيا أو تونس أو الجزائر أو مصر أو اليمن أو سورية أو العراق، والحبل على الجرار، والقضية الفلسطينية التي أكد كثيرون على مدى سنوات أنها جوهر الصراع في الشرق الأوسط، لم تعد "بقرة مقدسة"، بل إحدى ضحايا الثورات العربية الحالية، وفق تعبيره.

أيديولوجيا أيضا، يرفض نتنياهو أن يكون جذر الصراع متمثلا في سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية بعد حرب 1967 والمستوطنات، وأن تكون هي أسباب استمراره، واعتبر أن تاريخ اندلاع الصراع يعود إلى عام 1921 حين هاجم عرب فلسطينيون مقرّ المهاجرين اليهود الجدد في يافا، مما أسفر عن مقتل عدد منهم. فالقضية ليست قضية "الدولة الفلسطينية" بل تتعلق القضية المحورية بـ"الدولة اليهودية"، ومحاولة تقويض الصلة القديمة التي تربط الشعب اليهودي بـ"أرض إسرائيل"، و تقويض الحقائق الأساسية المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين خلال القرن العشرين. وبرأي نتنياهو، الشرط الضروري للتوصل إلى حلّ حقيقي هو زوال رفض الاعتراف بـ"حق اليهود" في أن تكون لهم دولة قومية في "أرض أجدادهم"، مما يجعل الاعتراف بهذا الحق أهم مفتاح لحل الصراع. وذكّر نتنياهو بأنه نبه الفلسطينيين في "خطاب بار إيلان 1" إلى أنه لا يكفي الاعتراف بالشعب اليهودي، بل أيضا بـ"الدولة اليهودية"، والكف عن محاولة إغراقها باللاجئين بتخليهم عن حلم العودة. 

حاول نتنياهو عدم الاكتفاء بالمطالبة الخارجية بالاعتراف بيهودية الدولة، فشدد على تأكيد يهوديتها في مواجهة الداخل الفلسطيني

وتعتقد تلك الأيديولوجيا أيضا، أن إنتاج شعب فلسطيني، وهوية وطنية فلسطينية، كان مؤامرة عربية لإسقاط "حق اليهود" في فلسطين، فلم يكن هناك شعب فلسطيني يملك وعيا قوميا أو هوية قومية، أو حتى مصالح قومية مشتركة، لم يكن هناك شعب فلسطيني يطالب بـ "تقرير المصير"، ولا دولة فلسطينية، ولا ثقافة فلسطينية، ليبدو هؤلاء (الفلسطينيون) عديمي الوزن أو مجرد غطاء استعمله العالم العربي في حربه الرامية الى القضاء على إسرائيل. واليوم ورغم الإقرار بوجودهم فإنهم عديمو الأهمية، ومجرد غطاء للإسلام المتشدد. ومن هذا المنطلق الأيديولوجي حاول نتنياهو عدم الاكتفاء بالمطالبة الخارجية بالاعتراف بيهودية الدولة، فشدد على تأكيد يهوديتها في مواجهة الداخل الفلسطيني ليدعم اقتراح تعديل قانون المواطنة، لينص على أن قسم الولاء لإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية شرط للراغبين في الحصول على الجنسية الإسرائيلية. (يمكن أن نلحظ إلى أي حد يتبنى مطبّعون عرب هذه المبررات الأيديولوجية الصهيونية)

التعاون الإقليمي
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 29 أيلول/ سبتمبر 2014، طالب نتنياهو بأن تَأخذ الجهود التقليدية الرامية إلى تحقيق السلام الواقع الجديد بعين الاعتبار، والمسؤوليات والوظائف الجديدة للدول العربية، ودعا الدول القيادية في العالم العربي، إلى أن تتشارك وإسرائيل في "وعي الخطر العالمي للتشدد الإسلامي"، و"الأهمية القصوى في إزالة قدرات إيران على إنتاج السلاح النووي"، و"الدور الحيوي للدول العربية الكبرى على صعيد دفع السلام مع الفلسطينيين"، معتقدا أن هناك دولًا سنّية قيادية في العالم العربي تغيّر موقفها التقليدي القائم على معاداة إسرائيل، وتدرك بشكل متزايد أن التهديد الحقيقي لا يأتي من إسرائيل، بل من إيران والإسلام المتشدد، ويعتقد أن التعاون مع هذه الدول، التي باتت مستعدة أكثر من أي وقت مضى للعمل من أجل السلام والأمن مع إسرائيل، وتشاطرها الرغبة في بناء شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً وازدهاراً، من شأنه أن يساهم في فتح باب السلام مع الفلسطينيين. يتم ذلك فقط في إطار هذا التعاون الإقليمي، ومن خلال وقوف المجتمع الدولي إلى جانب إسرائيل، ومطالبة الفلسطينيين بالكفّ عن التحريض، والسير على درب السلام. كرر نتنياهو رغبته في التعاون مع دول خليجية في مقدمتها العربية السعودية، وأقرّ علناً لأول مرة باستعداد إسرائيل لمساعدة الأردن عسكرياً، وأنها تؤيّد تطلعات كردستان نحو الاستقلال، معتبرا مصر شريكاً في هذا المعسكر. 

خاتمة
بالنسبة للتعاون الإقليمي الذي طالب به نتنياهو في غير مناسبة، يبدو أنه يحقق تقدما، وظهر ذلك التطور جليًا في اتفاقيتي التطبيع الأخيرتين، مع إمكانية ركوب عواصم عربية أخرى لهذا القطار، مما يعني مزيدا من التماهي مع عقيدة نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف، وإقرارا بالسردية التاريخية الصهيونية على حساب حقوق الفلسطينيين وحقائق التاريخ. ولا تكتفي إسرائيل بالاعتراف بها كأمر واقع، بل تسعى لأن يتحول الاعتراف بها إلى اعتراف بالصهيونية وممارساتها الاستيطانية، مما يعني، بحسب ما ذهب إليه عزمي بشارة، أن يتحول الاعتراف العربي من اعتراف بحكم الأمر الواقع إلى اعتراف مبدئي بشرعيتها التاريخية، ومثل هذا الاعتراف إذا ما حدث، سيكون إنجازا سياسيا معنويا ثقافيا للحركة الصهيونية وإسرائيل، يعادل إقامة دولة إسرائيل، لا في الواقع الملموس فحسب، بل أيضا في الثقافة والفكر والخطاب السياسي.
يعتقد نتنياهو، وغيره من واضعي الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية، أن بإمكانهم إدارة الاحتلال إلى الأبد، وبأقل تكلفة ممكنة، مما يعني، في نهاية المطاف تحولها، إلى دولة فصل عنصري تحكم ملايين الفلسطينيين، بمشاركة عربية في هذه الجريمة ضد الإنسانية.