يعيش أهالي إدلب السورية بعد ست سنوات من سيطرة المعارضة عليها، في دوامة جديدة من العنف، إذ يجدون أنفسهم عالقين بين التفلت الأمني وتسلط "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) على المحافظة، والتي استخدمت ما سمي بـ"حكومة الإنقاذ" كذراع لها للسيطرة على كل المرافق الخدمية، وبين التصعيد المتواصل من النظام السوري وحلفائه، أكان باستمرار القصف بالمدفعية والطيران، أو من خلال العمليات العسكرية للسيطرة على المنطقة بدعم روسي.
أما المسارات التفاوضية حول المحافظة، فكانت أشبه باللعبة السياسية، استغلها الروس لقضم أجزاء واسعة من إدلب ومحيطها، بهدف تحقيق هدفهم بالسيطرة عليها كاملة بشكل تدريجي، الأمر الذي لا يزال محط مخاوف المعارضة والأهالي في إدلب. أما تركيا، التي قدّمت الدعم للمعارضة لتحرير مركز محافظة إدلب ومحيطها، فلم تتحرك جدياً لإيجاد حل جذري لـ"هيئة تحرير الشام"، فيما دخلت في مسارات تفاوضية مع روسيا حول المحافظة أسفرت في النهاية عن خسارة المعارضة أجزاء واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرتها لصالح النظام، ومليشيات تسانده.
تحكّم "تحرير الشام"
عملت "هيئة تحرير الشام" بعد سيطرة المعارضة على فصائل المحافظة نهاية مارس/آذار 2015، على فرض نفوذها على إدلب، للتحكم بها مدنياً وعسكرياً، وهو ما شكّل ذريعة للنظام والروس والإيرانيين للتحرك عسكرياً باتجاه المنطقة بحجة مكافحة الجماعات الإرهابية، ما أحرج الموقف التركي وفصائل المعارضة الأخرى المقاتلة في إدلب ومحيطها. وفعلاً تقدّم الروس في معارك بدأت منذ العام 2019 وانتهت في مارس/آذار من العام الماضي، باتفاق روسي-تركي لوقف إطلاق النار، بعد أن خسرت المعارضة في تلك المعارك أجزاء واسعة من المحافظة ومحيطها، لا سيما جنوباً، والتي كانت أساساً تحت سيطرة المعارضة.
عملت "تحرير الشام" على فرض نفوذها على إدلب، وهو ما شكّل ذريعة للنظام والروس والإيرانيين للتحرك عسكرياً
كما أثرت سيطرة "تحرير الشام" على الوضع المعيشي للسكان المدنيين الذين تخلصوا من نظام الأسد الذي كان يطبق قبضته الأمنية على المدنيين، ليخضعواً مجدداً لسيطرة تنظيم راديكالي يتدخل بتفاصيل حياتهم اليومية. فبعد انتزاع إدلب من سيطرة النظام استُبدلت الفروع الأمنية بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما استُبدلت المحاكم المدنية بمحاكم شرعية من دون أي دور لمحامي الدفاع. وفي هذا السياق، نفذ جهاز الأمن العام التابع لـ"تحرير الشام" يوم الإثنين الماضي، حكماً بالإعدام رجماً بالحجارة بحق ثلاث سيدات ورجل وسط مدينة إدلب، بتهمة الزنى والقتل. كما عثر الأهالي على جثتين لشابين مقتولين برصاص مجهولين، في حادثتين منفصلتين على أطراف مدينة سلقين، وأطراف بلدة الدانا شمال محافظة إدلب، الإثنين، ما يشير إلى تدهور الوضع الأمني في عموم المحافظة.
كما حاربت الهيئة الناشطين المدنيين الذين خرجوا بثورة ضد الظلم من أجل بناء دولة قانون، فتمت تصفية الكثير منهم وتكفير آخرين بسبب دعوتهم لبناء مجتمع ديمقراطي. ولم يتوقف الأمر عند الوضع الأمني الذي ازداد سوءاً بل تعداه إلى الوضع الخدمي، فسيطرت الهيئة على كل المرافق الخدمية وبدأت باستثمارها من أجل تمويل نفسها ذاتياً على حساب المدنيين، وبأسعار لا طاقة لهم على تحمّلها. فأصبحت الوكيل الحصري لبيع الكهرباء والاتصالات وحتى استولت على مهنة الصرافة، ولم تسمح بممارستها إلا من خلالها. كما اعتمدت الهيئة على الغرامات كوسيلة لجني الأموال، فمنعت الأعراس في الصالات من دون أن تغلقها ولكنها فرضت غرامات كبيرة على من يقيم عرساً في صالة، كما منعت حيازة التبغ فيما سمحت للتجار باستيراده من أجل فرض غرامات على تجار المفرق والمواطنين الذين يضبطون ومعهم علب سجائر.
وقال الشاب محمود الخالد المقيم في مدينة إدلب، لـ"العربي الجديد"، إن "تحرير الشام" هيمنت أمنياً وعسكرياً على مدينة إدلب منذ دخولها المدينة عام 2014، وحتى اليوم، موضحاً أن الهيئة تدعي أن جهاز الأمن العام في محافظة إدلب هو من كافة الفصائل العسكرية، لكن الواقع غير ذلك أبداً، فجهاز الأمن العام تتحكّم به الهيئة وتديره مع وجود قسم صغير من باقي الفصائل ليس لها أي قرار في مهمات جهاز الأمن. وأضاف الخالد أن "هيئة تحرير الشام بين الحين والآخر تعمل بشكل متعمد على تسيير أرتال عسكرية داخل مدينة إدلب، إما بحجة حملة أمنية، أو بحجة استعراض عسكري، ولكن الهدف الرئيسي هو ترهيب المدنيين، من أجل عدم الانتفاض في وجه الهيئة، لا سيما أن عناصرها قمعوا تظاهرات عدة في مدينة إدلب، طالبت بإسقاط زعيم تحرير الشام أبو محمد الجولاني".
وأشار الخالد إلى أن "تحرير الشام" فرضت سلطتها على كامل المرافق الحيوية في المدينة والحركة التجارية والأسواق والتجار ومحلات الصرافة والحوالات، عن طريق الذراع المدني التابع لها "حكومة الإنقاذ"، ومنعت أي شركة أو صيدلية أو معمل يتم افتتاحه من دون ترخيص من "الإنقاذ" والموافقة عليه بعد دراسة عن المشروع.
من جهته، أكد حسن جبارة المقيم في مدينة إدلب، لـ"العربي الجديد"، أن "تحرير الشام" حالياً لم تختلف بتعاملها وتدخلها بشؤون المدنيين عن تعاملها حين كانت تسمى "جبهة النصرة"، مضيفاً "نتعامل معها كسلطة أمر واقع، فنحن غير راضين عن الطريقة التي سيطرت بها من خلال القضاء على فصائل الجيش الحر، والقبضة الأمنية الكبيرة وتفردها بالأمور المدنية عبر حكومة الإنقاذ، إلا أنها أصبحت أمراً واقعاً وبتنا مرغمين على التعامل معها". ولفت إلى أن "النسبة الكبرى من الأهالي تدرك هذا الأمر جيداً لكن سوء الأوضاع المعيشية وانتشار مخيمات النزوح و الكثير من المشاكل الحياتية الأخرى تجعل الناس يسكتون أو يغضون الطرف عن هذا الأمر".
ومما يزيد معاناة المدنيين في محافظة إدلب هو اتخاذ النظام والروس، "تحرير الشام" كذريعة لقصف المحافظة بشكل دائم، وكانت الكارثة الكبرى في المحافظة خسارة حوالي 1.7 مليون نازح لمنازلهم التي هُجروا منها نتيجة السيطرة على مدنهم وقراهم من قبل قوات النظام وحلفائها، ولا يزالون يعانون ظروفاً صعبة في المخيمات الشمالية ومناطق النزوح، وسط انعدام فرص العمل وندرة المساعدات الإنسانية، في ظل أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة تعيشها البلاد.
الدور التركي
أمام هذا الواقع، باتت تركيا تحت ضغط المطالبة بالوقوف عند التزاماتها، بالعودة إلى اتفاق سوتشي، وتطبيق حدوده الجغرافية، ما يعني إبعاد النظام عن المناطق التي قضمها بدعم روسي وإيراني، سلماً أو حرباً. كما تواجه تركيا مطالبا بالتحرك الجدي لإيجاد حل جذري لـ"تحرير الشام" ووضع حلول لتنظيم الوضع الأمني والخدمي في المحافظة.
تواجه تركيا مطالبات بالعودة إلى اتفاق سوتشي وإيجاد حل لـ"تحرير الشام"
في المقابل، فإنها بدأت بترتيب أوراقها وأوراق المعارضة العسكرية في إدلب بشكل أكثر تنظيماً، لضمان عدم تمدد النظام وحلفائه مستقبلاً في عمق إدلب. فأنشأت من خلال نقاط عسكرية تابعة لجيشها جداراً نارياً في مواجهة النظام على خطوط التماس، بعد أن أبدى النظام مع الروس نوايا للتقدّم والسيطرة على الطريق الدولي "أم 4"، انطلاقاً من جبل الزاوية جنوب إدلب. وزجت أنقرة إلى ذلك الجدار بالآلاف من مقاتلي جيشها، وتحديداً من قوات "الكوماندوس"، وزودت تلك النقاط بأسلحة وعتاد هجومي يصعب على النظام وقواته مواجهته.
كما عمدت تركيا إلى إعادة تنظيم المعارضة ولا سيما "الجبهة الوطنية للتحرير"، وهي تحالف عسكري يضم العديد من الفصائل في إدلب، بهدف تنظيم صفوفها استعداداً للسيناريوهات المقبلة. بيد أن عقدة السيطرة الواسعة لـ"تحرير الشام" على مساحات من إدلب، لا تزال تحرج أنقرة، أمام الروس والإيرانيين من جهة، والمجتمع الدولي من جهة أخرى.
وفي ظل هذه الأجواء، يبقى مصير المحافظة غامضاً، وينتظر جهوداً دولية وغربية إلى جانب تركيا لحله بشكل كامل، وإنهاء معاناة المدنيين في المحافظة من ويلات تسلط الهيئة ومن ويلات الحرب.