إخلاءات السبيل في مصر: كورونا والمعتقلون الجدد والاتصالات الغربية

06 نوفمبر 2020
ترغب وزارة الداخلية بتقليل الأعداد في السجون (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

فاجأت محكمة جنايات القاهرة المراقبين الحقوقيين، الثلاثاء الماضي، بإصدار قرار جماعي بإخلاء سبيل أكثر من 450 من المتهمين المحبوسين على ذمة القضيتين 1338 و1413 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، الخاصتين بأحداث تظاهرات سبتمبر/أيلول 2019، التي كانت أكبر تظاهرات يشهدها حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي على مدى سبع سنوات. وخفض هذا الأمر عدد المعتقلين على خلفية هذه التظاهرات إلى أقل من مائة، بعدما كان العدد أكثر من ألفين نهاية العام الماضي.
لكن أسباب هذه الموجة غير المسبوقة من إخلاء السبيل، والتي تعادل في عددها المستفيدين من بعض قرارات العفو الرئاسي السابقة، تبدو بعيدة تماماً عما تحاول بعض أذرع النظام ترويجه، بأنها انفراجة في المجال العام، أو بادرة من السلطة للبرهنة على تحسين أوضاع حقوق الإنسان وتقليل أعداد المعتقلين.

تعمل مصلحة السجون المصرية حالياً على إعداد قائمة جديدة من المحبوسين في قضايا جنائية عادية للإفراج عنهم

وبحسب مصادر أمنية وقضائية ذات صلة مُباشرة بملف قضايا الرأي العام ذات الطبيعة السياسية، فإن السبب الأول لهذا القرار هو رغبة وزارة الداخلية في تقليل الأعداد في السجون، تلافياً لازدحامها بصورة مبالغ فيها كما كان الوضع في ربيع العام الحالي. وتتخوف الوزارة من موجة ثانية شرسة لجائحة كورونا، ربما تؤدي لزيادة عدد المصابين داخل السجون، خصوصاً بعد الزيادة الكبيرة في أعداد المعتقلين في الشهرين الأخيرين على خلفية تظاهرات الحراك الشعبي، في المناطق الريفية بالجيزة وبعض محافظات الصعيد في سبتمبر/أيلول الماضي.
وأضافت المصادر أن ازدحام السجون بالمعتقلين، وعدم تمكن إداراتها من التطبيق الكامل للبروتوكول الطبي الذي تم وضعه لتدابير التباعد الاجتماعي وتخفيف الأعداد داخل الزنازين والعنابر، أدى إلى حبس نسبة تقترب من نصف معتقلي الحراك الشعبي الأخير داخل بعض أقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي، في أوضاع إنسانية صعبة وخطيرة على الصحة العامة للمحبوسين وأفراد الأمن على حد سواء. وقد دفع هذا الأمر وزارة الداخلية للمسارعة لإخراج أكثر من ألفي سجين، مستفيدين من قرار العفو الرئاسي بالإفراج الشرطي بمناسبة ذكرى انتصار أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ثم إخلاء سبيل هذه الدفعة الكبيرة من المعتقلين على خلفية سياسية، لإتاحة الفرصة لنقل المعتقلين الجدد إلى السجون المركزية والليمانات، مع تطبيق التدابير الاحترازية الجديدة.

ورجحت المصادر صدور قرارات جديدة بإخلاء السبيل في قضايا كبيرة، على مستوى القاهرة والمحافظات خلال الشهر الحالي. وكشفت عمل مصلحة السجون حالياً على إعداد قائمة جديدة من المحبوسين في قضايا جنائية عادية، ربما يزيد عددهم على 1500 للاستفادة من الإفراج الشرطي بقرار العفو القادم، بمناسبة ذكرى ثورة 25 يناير/كانون الثاني (2011) وعيد الشرطة، ما سيتيح لها التعامل مع الأماكن المتاحة في السجون والليمانات بمزيد من المرونة.
ويبدو أن الداخلية تعد سجونها لاستضافة عدد كبير من ضحايا حملات الاعتقال التي شنت على نطاق واسع الشهر الماضي، في بعض قرى الجيزة والصعيد وحي البساتين بالقاهرة بعد الحراك الشعبي الأخير. وكانت استهدفت العشرات من المواطنين الذين بثوا مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي للتظاهرات الشعبية الشهر الماضي، وذلك بعد تتبع آلاف الحسابات والصفحات التي تداولت تلك المقاطع. وقد تم إدراجهم جميعاً على ذمة القضية 880 لسنة 2020، وأضيفت لهم اتهامات خاصة، تزعم تعاونهم مع وسائل إعلام "معادية" وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

هناك تعليمات واضحة من الأمن الوطني بعدم تضمين قوائم المخلى سبيلهم أي شخصيات سياسية شهيرة

ومن مجموع معلومات من مصادر حقوقية مختلفة، رصدت "العربي الجديد" أن الأعداد التي عرضت حتى الآن على ذمة القضية على نيابة أمن الدولة العليا تجاوزت 2170 شخصاً، صدرت قرارات جماعية بحبسهم على ذمة التحقيقات، عدا نحو 90 من الأطفال وكبار السن أُخلي سبيلهم، بينما رفضت النيابة إخلاء سبيل البقية. وما زال هناك أعداد أخرى غير معروفة من المعتقلين، لم يتم عرضهم على النيابة.
وبالتالي فقد باتت أعداد المعتقلين على خلفية الحراك الشعبي الأخير قريبة للغاية -إن لم تكن أكبر- من أعداد المعتقلين في سبتمبر 2019، مع اختلاف جوهري يتعلق بالمناطق التي ينتمي إليها المعتقلون، حيث يزيد العنصر الريفي بشكل واضح في الأحداث الأخيرة ليمثل أكثر من 90 في المائة من العدد الإجمالي للمعتقلين. وأوضحت المصادر أن هناك تعليمات واضحة من الأمن الوطني بعدم تضمين قوائم المخلى سبيلهم، أو الإفراج الشرطي، أي شخصيات سياسية شهيرة. وفي تعبير واضح عن هذا التوجه، حدثت مفارقة بتزامن موجة إخلاء السبيل مع تدوير المسؤول السابق بحملة الفريق سامي عنان لرئاسة الجمهورية الدكتور حازم حسني في القضية الجديدة رقم 855 لسنة 2020. وأصبحت القضية تضم عدداً من المتهمين لا تربطه بهم أي علاقة، مثل النشطاء الحقوقيين محمد الباقر وسولافة مجدي وإسراء عبدالفتاح وماهينور المصري، والتي تم تدويرهم فيها أيضاً، وذلك بعدما كان قد حصل على قرار من المحكمة بإخلاء سبيله، بتدابير احترازية على ذمة القضية 488 لسنة 2019.
وفي شأن متصل، أشارت المصادر إلى أن خروج هذه الأعداد الكبيرة من السجون سوف يتم استغلاله لتحسين صورة النظام، حقوقياً وإنسانياً، خلال الاتصالات الدبلوماسية مع السفارات الأجنبية والعواصم الغربية. وكانت السفارات والعواصم أبدت أخيراً انزعاجها من التعامل الأمني مع التظاهرات الشعبية، وانتهاء بحادث مقتل مواطن بقرية العوامية بالأقصر، في ظروف تؤكد عدم قدرة النظام على الحد من جموح وسوء تصرف قوات الشرطة تجاه المواطنين. كما يبرهن على استغلال النظام للآلة الأمنية للبطش والتخويف.

خروج هذه الأعداد الكبيرة من السجون سوف يتم استغلاله لتحسين صورة النظام

وأكد حديث المصادر المصرية في هذا السياق ما سبق وكشفته مصادر غربية بالقاهرة مطلع الشهر الماضي، لـ"العربي الجديد"، من إجراء بعض السفارات الأوروبية اتصالات مع وزارة الخارجية المصرية. وأعربت هذه السفارات عن قلقها لما أوضحته متابعة الأحداث من وضوح محاولة النظام عدم الاعتراف بالطبيعة الشعبية الواسعة والمعارضة للحراك الجماهيري الأخير، ومحاولة تصويره باعتباره تظاهرات فئوية شهدتها بعض المناطق وحسب، وهو ما كان العنوان الأبرز في ردود الخارجية المصرية خلال الاتصالات.
وخلال تلك الاتصالات أعربت السفارات أيضاً عن قلقها بسبب ارتفاع عدد المواطنين المعتقلين، على خلفية الأحداث، سواء خلال مشاركتهم في التظاهرات، أو في إطار الحملات الأمنية للتخويف والحد من اتساع الحراك الشعبي. كما انتقدت بشدة استمرار حبس عشرات النشطاء السياسيين والحقوقيين، ممن تم اعتقالهم قبيل وعقب أحداث سبتمبر 2019، وأبرزهم المتهمون في القضية المعروفة إعلامياً بـ"مجموعة الأمل"، والذين كانوا يحاولون التنسيق للمشاركة في انتخابات مجلس النواب، ومنعتهم السلطات من حقهم السياسي باعتقالهم.
وذكرت المصادر أن بعض الاتصالات التي جرت تمت بتنسيق بين بضع عواصم، للتأكيد على استمرار اهتمامها جماعياً بأوضاع حقوق الإنسان في مصر، وهو ما طرح تساؤلاً عن احتمالات تطوير الموقف على المستوى السياسي أو الاقتصادي. وقد استبعدت المصادر ذلك حالياً في ظل ارتفاع وتيرة التعاون الاقتصادي والعسكري بين القاهرة وجميع العواصم الغربية الرئيسية. لكنها أشارت لوجود نقاشات في عواصم أوروبية مختلفة، كبرلين وروما، لمراجعة مستوى التعامل الأمني مع الأجهزة المصرية والتنسيق في مجالات التدريب والمنح والمساعدات المالية واللوجستية، باعتباره من الملفات التي يجب أن تُظهر فيها العواصم الأوروبية سلوكاً مغايراً لما تبديه في ملفات التعاون العسكري والاستثمار.
يذكر أن المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن كان قد انتقد فيما مضى أوضاع المعتقلين في مصر. ووجه إدانة لوفاة المواطن الأميركي من أصل مصري مصطفى قاسم في سجنه المصري مطلع العام الحالي، وانتقد تخاذل إدارة الرئيس دونالد ترامب في التعامل مع تلك القضية. وعاد، في تغريدة شهيرة في يوليو/تموز الماضي، لشن هجوم مزدوج على ترامب والسيسي. فحمل الأول مسؤولية اعتقال الشاب محمد عماشة لمدة 468 يوماً في السجون المصرية قبل الإفراج عنه بضغط أميركي. ومن جهة ثانية هدد بالتعامل بشكل مختلف مع السيسي حال فوزه بالرئاسة، بقوله "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل".
وشهدت السجون المصرية هذا العام أوضاعاً صعبة في ظل جائحة كورونا، وتوترات أخرى، بسبب سوء المعاملة والإهمال الطبي وزيادة حالات الوفاة. كما تم منع الزيارات لنحو خمسة أشهر، ووضع آلية جديدة تقوم على التسجيل المسبق لراغبي الزيارة، وهو ما سمح بالتمادي في منعها بالنسبة لمعظم المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي، والمتهمين بالانضمام لتنظيمات وجماعات معارضة لنظام الحكم، استمراراً للتمييز السلبي ضد الفئة ذاتها منذ بدء الجائحة. وكان المعتقلون في تلك القضايا هم الأقل استفادة من قرارات العفو المتتالية، التي صدرت بين مارس/آذار ويوليو/تموز الماضيين، والتي شملت أكثر من عشرة آلاف سجين، غالبيتهم الكاسحة من المحكومين في قضايا جنائية عادية، ومنهم المئات من الحاصلين على أحكام بالمؤبد، في قضايا تصنف بأنها خطيرة على الأمن العام.

المساهمون