لم تقتصر تبعات اتّفاق "أوسلو"؛ الذي وقع بين قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، والكيان الإسرائيلي في سبتمبر/أيلول 1993، على تكريس قضم الاحتلال لنحو 77% من أرض فلسطين التاريخية، واستمرار نهب الأرض عبر الاستيطان دون رادعٍ فحسب، بل فتح الباب على مصراعيه أمام العبث والتشويش بالوعي الشعبي العربي تجاه فلسطين والقضية، وأمام دخول أدواتٍ صهيونيةٍ؛ وغيرها، لعزل القضية عن عمقها الشعبي العربي.
لعل ما بات يعرف بـ "فلسطنة القضية"، أخطر ما طرأ عليها، بدءًا من لحظة توقيع الاتّفاق، إذ وَقع الاتّفاق كالصاعقة على الوعي العربي العام تجاه الصراع مع الحركة الصهيونية، الذي كان منذ بدايته؛ في الخطاب والممارسة العامّة، صراع وجودٍ ضدّ استعمارٍ استيطانيٍ، يستهدف المنطقة العربية بحاضرها وتاريخها، ليتحوّل إلى مجرّد مفاوضاتٍ مباشرةٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حوّل حصص الأراضي والحدود.
تحمّلت الشعوب العربية، طوعًا، عبر عقود الصراع تكاليف كثيرةً، وخصوصًا من قبل أنظّمة الاستبداد العربية، التي وظفت شعاراتٍ وحقائق تخص جوهر الصراع في خطابها القمعي وأدواته وممارساته، فأصبح سجن المعارضين، ونهب الموارد، وغياب الشفافية، والإفقار وتكميم الأفواه، من أجل تحرير فلسطين، ولزوم الإعداد له.
ربمّا مثّل "أوسلو" اختباراً ومختبراً لمدى مناعة وعي الشعب العربي العامّ بقضية فلسطين، والموقف من إسرائيل
مشهد المصافحة الشهيرة؛ بين عرفات ورابين، في البيت الأبيض، خلق صدمةً كبرى، لدى شريحةٍ عريضةٍ من الشعوب العربية، وتفجّرت في أذهانها أسئلةٌ كثيرةٌ، حول جدوى استمرار الصراع، وتحمّل التكاليف، في حين قبِل "أصحاب الشأن" قسمةً غير عادلةٍ، بعد عقودٍ من النضال والشهداء. هذا الخطاب بات؛ منذ عام 1993، لازمةً يكررها من باتوا لا يرون في التطبيع مع الاحتلال مثلبةً، ولو أنّه لم يحقق؛ حتّى لموقعي "أوسلو"، أيّ مكاسب تذكر.
مثّل "أوسلو" المدماك الأوّل في الوعي العربي العام، لتقبّلِ "حقّ إسرائيل في الوجود على الأرض العربية التاريخية"، بشرعيةٍ مستمدةٍ من "أصحاب القضية"، فتكاثر تسلل الأقنية الصهيونية، ومررت مشاهد التطبيع، بصناعةٍ "فلسطينيةٍ"؛ من قبَلِ قادة العمل الفدائي سابقًا، وكرّس التطبيع فكرة وجود الكيان.
نشأ على تلك المشاهد أبناء جيلٍ كاملٍ؛ منهم كاتب هذه السطور، وتكون وعيهم في خضم جدل " أحقّية الكيان بالوجود" من عدمه، وفي التبرير أو إدانة الفلسطينيين الذي وقعوا، وما أحدثه ذلك من تشويشٍ على وعي جيلٍ كاملٍ، خصوصًا أنّ تلك النقاشات كانت سمة الانقسام الوطني الفلسطيني، الذي أسسه "أوسلو"، وتشظت حوامله في مخيّمات اللاجئين، وفي الداخل المحتل، ليبدأ انحدار حركة التحرر الوطني الفلسطينية.
المفارقة هنا؛ أنّ تسلل التطبيع إلى المجتمعات العربية؛ الذي التحف بمقولةٍ غير موضوعيةٍ هي "قبول أصحاب الشأن"، كان لـ "أوسلو" فيه الدور الأساس، دونًا عن تطبيع أنظمة تلك الدول قبل أوسلو. ففي مصر مثلاً، ازدادت جرأة المطبّعين؛ من نخبٍ ورجال أعمال في قطاعاتٍ استثماريةٍ وسياحيةٍ، بالكشف عن تعاملاتٍ علنيةٍ مع الصهاينة، وسمعنا لأوّل مرّةٍ عن مكاتب تمثيلٍ تجاريٍ، وصرنا نرى جموع السياح الصهاينة تعبر إلى الأردن، وهو البلد الذي طبّع بعد "أوسلو"، ودومًا يُشهر في وجه معارضي التطبيع أنّ " أصحاب الشأن قد قبلوا".
كما وفّر "أوسلو" فرصةً ليظهر المطبّعين كأخلاقيين تجاه فلسطين، ومتمسكين بها، وداعمين لها، ولكن ليست فلسطين التاريخية، بل فلسطين الفُتات، لمحتكريها الجدد من أبناء السلطة الوليدة في رام الله، فدعم القضية صار يتجلّى في دعم السلطة؛ في معركتها على مسائلٍ تتعلق بالخطوات الإجرائية لولادة الدولة الفلسطينية، وفق الاتّفاق، ابتداءً من خطوة " غزّة وأريحا"، واستجداء المجتمع الدولي، وصولاً إلى منحدر المناشدات للسماح بمرور سفنٍ إغاثيةٍ إلى غزّة، أو الإفراج عن أسيرٍ مريضٍ، وهي قضايا الحقّ البديهي ليس أكثر.
ومن جانب آخر، ربمّا مثّل "أوسلو" اختباراً ومختبراً لمدى مناعة وعي الشعب العربي العامّ بقضية فلسطين، والموقف من إسرائيل، الذي رغم كلّ العبث الذي سببه الاتّفاق، وما يزال يُمارسه، لم ينل المُريدون مرادهم، فنحو 84% من مواطني 14 دولةٍ عربيةٍ من المحيط إلى الخليج، عبّروا عن رفضهم التطبيع مع كيان الاحتلال، كما بيّنت نتائج "المؤشر العربي لعام 2022"، التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بل وعلل 36% من المستطلعين رفضهم كون إسرائيل دولة استعمارٍ واستيطانٍ، وتوزعت أسباب رفض البقية بين طبيعة الكيان العنصرية التوسعية، وتهديده للعرب والمنطقة، وتهجير الفلسطينيين واضطهادهم.