أمام الحاجز الذي يمنع الوصول إلى دار الأوبرا الراقية في أوديسا، يتعانق الجندي وزوجته وابنته طويلاً، في مشهد وداعٍ أصبح يومياً في هذه المدينة التي ما زالت تنعم بالسلام، لكنها تستعد للحرب.
وتبدو المدينة، التي لم تصلها أهوال الحرب بعد، معلّقة بين انتظار هجوم روسي أُعلن عنه مرات عدة، وهدوء بداية الربيع في "لؤلؤة البحر الأسود".
ينبغي إبراز وثائق اعتماد لدخول الوسط التاريخي المليء بأكياس الرمل وعوارض حديدية، بينما تتمركز الدبابات عند تقاطعات الشوارع فيه. وينظم الجيش والبلدية زيارات للصحافيين الذين يتلقون عبارات شكر على حضورهم "ليظهروا للعالم ما يحدث هنا".
وبرفقة عسكريين اثنين، يبلّغ الصحافيون بما يمكنهم أو لا يمكنهم تصويره، لكن الجو يظل هادئاً.
بعد عبور الحواجز الأولى، يظهر رسم جداري باللونين الأصفر والأزرق - لونا علم أوكرانيا - على كتلة خرسانية مع عبارة "حرية مساواة أخوة" بالفرنسية.
يزدحم عادة الوسط الجميل لأوديسا، المدينة التي أسستها في نهاية القرن الثامن عشر الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية والدوق الفرنسي ريشيليو، بالمارة في أوقات السلم، وسط المقاهي العصرية و"فندق باريس" الفاخر، فيما تطلّ المدينة على المشاهد الخلابة للميناء، و"سلّم بوتيومكين" الشهير الذي يتألف من 192 درجة.
عبر مكبّر الصوت المخصص للتلفريك ووسط صمت سريالي، ينطلق بشكل منتظم صوت قائلاً "تحذير! تنبيه!"، ثم دعوة إلى "البقاء في مكان آمن"، للتحذير من غارات جوية محتملة. ومن حين إلى آخر، تسمع بعض الطلقات النارية من جهة المرفأ.
في أعلى الدرج، تمت تغطية تمثال ريشيليو بأكياس من الرمال. أما تمثال كاثرين الثانية المرتفع أكثر والموجود في موقع أقل خطراً على ما يبدو، فلا يحميه سوى العلم الأوكراني.
Here’s how they’re trying to protect the local landmarks in Odesa against Russian attacks. Pictured here: the Monument to Duc de Richelieu. Those are sandbags. pic.twitter.com/j2UfRRGZIh
— Kevin Rothrock (@KevinRothrock) March 9, 2022
"حصن منيع"
كانت السيدة المسنة ليودميلا في طريقها إلى منزلها. تقول إنها عاشت دائماً هنا. تنظر بأسف إلى الشوارع المقفرة المحصنة قائلة "أوديسا مدينتنا الجميلة". ثم تضيف "لا أعرف ما إذا كانت هناك مدينة أخرى مثل هذه في العالم. لكن الحمد لله نحن صامدون! الجميع صامدون".
وتقول الجندية الشابة ديانا كراينوفا/ التي ترافق الصحافيين، وهي تبتسم: "من المؤلم أن نرى تراثنا التاريخي مغطى بأكياس رمل ومتاريس، لكننا جاهزون".
على بعد بضعة شوارع من هنا، تجري الستينية ماريا، وهي تحمل أكياساً بلاستيكية كبيرة مليئة ببقالة بين ذراعيها، لدخول المبنى الذي تعيش فيه وتمّ تحصين مدخله بإطارات وضعها السكان. وتقول قبل أن تبتعد "عشت كل حياتي هنا... أمر فظيع أن نرى ما يحصل اليوم".
As the conflict in #Ukraine rages, residents of a region in northern #Poland that will house a US missile facility worry they could become Russian targets in case of a wider conflict https://t.co/L3ZLiWyeQi #Redzikowo pic.twitter.com/N4K85wnulf
— AFP News Agency (@AFP) March 18, 2022
فجأة، يخرج رئيس بلدية أوديسا غينادي تروخانوف من سلسلة اجتماعات، يرافقه عدد من المسؤولين. الرجل المولود في أوديسا، التي أصبح رئيس بلديتها في 2014 وأعيد انتخابه في 2020، مثير للجدل، إذ ورد اسمه في وثائق بنما التي طاولت آلاف الشخصيات المشتبه في تهربهم الضريبي وغسل الأموال. يتوقف ليتحدث إلى الصحافيين. ويقول "لم أتخيّل قط أنني سأرى شيئاً كهذا، أرى الدوق مغطى بأكياس الرمل"، قبل أن يكرّر مثل الآخرين أنّ أوديسا "جاهزة" لمواجهة الروس.
ويتابع "كانت لدينا خطط لإعادة تأهيل وسط المدينة، والآن نفكّر في الحرب. هذا كابوس.. عبث". ويضيف أنّ "مدينتي ميكولايف وخيرسون البطلتين (شرق أوديسا) تقفان في وجه الجيش المعتدي. أعطانا ذلك 21 يوماً للاستعداد وبناء المتاريس، وتوفير الغذاء والدواء، وجعل مدينتنا حصناً منيعاً".
وأوديسا أول ميناء أوكراني على البحر الأسود، كانت تضم مليون نسمة قبل الحرب وفرّ نحو مئة ألف منها حتى الآن، حسب البلدية. وهي هدف استراتيجي ورمزي للروس.
المدينة التي تعتبر الأدفأ في أوكرانيا خلال الشتاء، وجدت دراسة أجراها المعهد الجمهوري الدولي عام 2015 أنّ 68% من سكانها هم من أصل أوكراني، و 25% من أصل روسي. ويوجد فيها عدد كبير من اليهود.
وهي الثالثة بعد كييف وخاركيف من ناحية الحجم، وعدد سكانها أكثر من مليون نسمة، يوجد فيها أربعة موانئ، وتعتبر العاصمة الاقتصادية والسياحية لأوكرانيا.
(فرانس برس، العربي الجديد)