لم يتأخر المستشار الألماني أولاف شولتز في الدفاع عن زيارته للصين، الجمعة الماضي، منطلقاً من توافقه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ على عدم جواز استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا.
غير أن أصواتاً أوروبية وتحديداً فرنسية أبدت قلقاً من تنامي العلاقات بين برلين وبكين، على وقع جملة من التحديات مثل الطاقة والتضخم، فضلاً عما قد يكرّسه التمايز الألماني عن المعسكر الأوروبي، من إشكالات وانقسامات.
البيان المشترك بين شولتز وشي
واعتبر شولتز، أول من أمس السبت، أن البيان المشترك مع شي، والذي نص على رفض استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا "كان سبباً كافياً للسفر إلى هناك". وشدّد خلال اجتماع للحزب الاشتراكي الديمقراطي، على اعتقاده بأنه "على ضوء الجدل بشأن ما إذا كان السفر إلى هناك أمراً صحيحاً أم لا، فإن الحكومة الصينية، والرئيس الصيني وأنا، تمكنّا من القول إنه يجب عدم استخدام أي أسلحة نووية في هذه الحرب".
وقال إن "الحرب الروسية في أوكرانيا تشكّل وضعاً خطيراً للعالم بأسره"، حاثاً بكين حليفة موسكو على استخدام "نفوذها" لتجنّب التصعيد ووقف غزو أوكرانيا.
وكانت وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا"، قد ذكرت الجمعة الماضي، أن "شي أشار إلى حاجة الصين وألمانيا، وهما دولتان رئيسيتان لهما تأثير كبير، للعمل معاً في أوقات التغيير وعدم الاستقرار والمساهمة بشكل أكبر في السلام والتنمية العالميين".
صحيفة فرنسية: الحرب ممكنة بين فرنسا وألمانيا مرة أخرى
وزيارة شولتز إلى بكين، برفقة رؤساء تنفيذيين لكبريات الشركات الألمانية، هي الأولى من نوعها لزعيم من دول مجموعة السبع (ألمانيا، كندا، فرنسا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا، الولايات المتحدة) منذ تفشي وباء كورونا في عام 2020.
وبما يُظهر اعتماد ألمانيا استراتيجية متمايزة عن الأوروبيين، قال شولتز: "لدينا خطة واضحة، ونحن نتبعها. وهذا يعني تنويع الدول التي تربطنا بها علاقات تجارية، خصوصاً مع بلد كبير جداً، ولديه نصيب كبير من الاقتصاد العالمي".
ووجدت ألمانيا نفسها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أمام واقع صعب، حتى أن الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير تحدث خلال زيارته أوكرانيا في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن أن بلاده تمر بـ"أعمق أزمة منذ إعادة توحيدها"، مشيراً إلى أنه ليس من مصلحة ألمانيا "مواجهة كتلة جديدة" وتقسيم العالم إلى مفهوم "نحن وهم".
وهو ما يبدو أن برلين اختارت ترجمته على أرض الواقع من خلال سلسلة الزيارات التي قام بها شولتز أخيراً، والتي شملت دولاً خليجية (السعودية وقطر والإمارات) قبل أن يزور الصين. وسبق ذلك قيامه في مايو/أيار الماضي بجولة إلى عدد من الدول الأفريقية.
وتطرق موقع "إذاعة فرنسا الدولية" في تقرير له إلى الزيارة التي قام بها شولتز لبكين مشيراً إلى أن الصحافة الصينية أبرزت الثقل الصيني على الاقتصاد الألماني، الذي من شأنه أن يفرض واقعية معينة من برلين في الدفاع عن مصالحها.
ونقل تقرير الإذاعة عن صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية الناطقة باللغة الإنكليزية، تأكيدها أن "الزيارة تعكس الأهمية التي تعلقها الشركات والصناعة الألمانية على السوق الصينية".
وأضاف موقع الإذاعة أنه "في وقتٍ تدعو فيه بروكسل إلى سياسة أكثر صرامة تجاه الصين، اتخذ شولتز لهجة مختلفة، على وقع أزمة اقتصادية خطرة تضرب برلين".
ورأى أنه "من المرجح أن القيادة الصينية ترى حرص شولتز على أن يكون أول زعيم للاتحاد الأوروبي يرى شي جين بينغ بعد المؤتمر العشرين (للحزب الشيوعي، الذي عُقد في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي) علامة على اليأس".
وذكر التقرير أن "البعض على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية أشاد بألمانيا التي أثبتت من خلال هذه الزيارة أنها ليست تابعاً للولايات المتحدة".
من جهتها، رأت مجلة "فورين بوليسي" في تقرير حول الزيارة، أنه "مع تزايد التوترات الدبلوماسية بين باريس وبرلين خلال الأسابيع القليلة الماضية، امتلأت وسائل الإعلام الفرنسية بتعليقات قلقة، بلغت حدّ الهستيريا، من الزيارة الألمانية لبكين"، مشيرة إلى أن "إحدى الصحف اعتبرت أن الحرب بين فرنسا وألمانيا قد تكون ممكنة مرة أخرى"، في إشارة إلى صحيفة ليزيكو (lesechos).
وذكرت المجلة في التقرير أن "فرنسا وألمانيا تختلفان حول مجموعة واسعة من الملفات، من الطاقة إلى الدفاع إلى التجارة الدولية. وفرنسا تخشى أن يتخلى عنها شريك قوي، يبدو أقل استعداداً لحصر نفسه داخل حدود السياسات الأوروبية".
مع العلم أن الاجتماع بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وشولتز في باريس في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي فشل في إنهاء التباين في وجهات النظر بين الطرفين، وهو ما انعكس إن من خلال تأجيل عقد الاجتماع الوزاري الفرنسي - الألماني المشترك حتى يناير/ كانون الثاني المقبل، أو من خلال التصريحات التي صدرت يوم اللقاء بين ماكرون وشولتز إذ قالت حكومتا باريس وبرلين إنهما لا يزال أمامهما عمل كثير للتوصل إلى توافق في الآراء بشأن بعض القضايا الثنائية.
واعتبر تقرير "فورين بوليسي" أنه "في السنوات الأخيرة، كان التحالف بين ألمانيا وفرنسا، المؤسستين المشاركتين للاتحاد الأوروبي وأكبر اقتصادين فيه، ركيزة صلبة في سياسة الاتحاد الأوروبي".
وأشار التقرير إلى أنه "على الرغم من خلافاتهما في السابق، حول قضايا مثل الإنفاق العام وقواعد الميزانية، إلا أن الحكومتين الفرنسية والألمانية شكّلتا جبهة موحدة مؤيدة لأوروبا، ضد التحديات التي فرضها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود الشعبوية اليمينية المتطرفة، والتراجع الديمقراطي في بلدان مثل المجر وبولندا".
ونقلت "فورين بوليسي" عن عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي، النائب باتريك فينيال قوله إنه "يتوجب على الثنائي الفرنسي الألماني أن يكون محرّك الأسرة الأوروبية، لأن الأمر سيكون دراماتيكياً إذا انهارت العلاقات".
في المقابل، رأى خبير السياسات الألمانية في معهد "مونتاين" الفرنسي، ألكساندر روبينيه ـ بورغومانو، أن "فكرة التحالف الخاص بين قوتين متساويتين هي وهم تمّ العمل عليه في السنوات العشر الماضية"، مشيراً إلى أن فرنسا استخدمت هذا التحالف لتبقى مؤثرة على الساحة الدولية، بينما تمسكت ألمانيا بمبدأ "القيادة من الخلف"، على الرغم من أنه لا يصف القوة الألمانية فعلاً.
ورأى أن "ألمانيا عملاق يستيقظ ولا يزال يرتبك في تفاعله مع العالم"، ولكن "بينما تتخذ ألمانيا مكانتها كقوة عظمى، تجد فرنسا نفسها منحدرة إلى دور ثانوي".
وبدا واضحاً أن ألمانيا تعمل وفق استراتيجية مستندة إلى عاملين. العامل الأول، هو خروجها من الظلال والتمركز في الخلف إلى الواجهة كقوة فاعلة دولياً. والعامل الثاني هو إظهارها نواياها بعدم التفريط بمصالحها على مذابح الوحدة الأوروبية أو الغربية.
وأظهر السلوك الألماني بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، أن برلين لن تقف متفرجة أمام تغير مفاجئ في اقتصادها، خصوصاً قرارها إنفاق ما يصل إلى 200 مليار يورو (195 مليار دولار) لدعم أسعار الغاز المرتفعة للغاية، في مقابل معارضتها وضع سقف لأسعار الطاقة على مستوى الاتحاد الأوروبي.
ذكرت "فورين بوليسي" أن ما يثير استياء فرنسا، هو عدم تقليل ألمانيا اعتمادها على الولايات المتحدة
وهو ما أثار غضب باريس وغيرها من العواصم الأوروبية. كما أثار شولتز غضب الشركاء الأوروبيين بعد أن أعطى الضوء الأخضر لبيع حصة في ميناء هامبورغ لشركة صينية، على الرغم من اعتراضات الحكومة الألمانية بأكملها تقريباً.
الاستراتيجية الفرنسية
ونقلت "فورين بوليسي" عن رئيسة مدرسة "هيرتي" في برلين، كورنيليا وول، قولها إن "استراتيجية فرنسا تعتمد على تحويل أوروبا إلى مركز جيوسياسي هام، ولا يمكن فعل ذلك من دون التعاون الفرنسي ـ الألماني، وذلك من أجل بناء قوة وازنة توازي القوة الأميركية والقوة الصينية".
وأضافت وول: "لكن ألمانيا بدلاً من ذلك، تسعى خلف مصالحها الاقتصادية أكثر من الاهتمام باستراتيجية من هذا النوع". وقارنت المجلة بين خطاب شولتز في أغسطس/آب الماضي وزيارته إلى بكين.
واعتبرت أنه في أغسطس، بدت ألمانيا وكأنها تسعى إلى سيادة أوروبية في كل القطاعات، وفقاً لكلام المستشار نفسه، خصوصاً حين حث نظراءه الأوروبيين على "النمو بشكل أكثر استقلالية في كل الميادين"، لكنه سرعان ما تبدل الأمر حين أعلن هو نفسه تعزيز الميزانية العسكرية الألمانية بـ100 مليار يورو، بمعزل عن أي تفاهم مع دول الاتحاد الأوروبي.
وذكرت "فورين بوليسي" أن "ما يثير استياء فرنسا، هو عدم تقليل ألمانيا اعتمادها على الولايات المتحدة، تحديداً عبر شراء برلين عشرات الطائرات المقاتلة الأميركية الصنع من طراز أف 35. كما تعمل برلين على تطوير درع صاروخي مشترك مكون من أنظمة ألمانية وأميركية وربما إسرائيلية. مع العلم أن لفرنسا درعاً صاروخياً مشتركاً مع إيطاليا، غير مشترك في المنظومة الألمانية".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)