أكاديميون يقرأون سقوط الأسد: لحظة تاريخية للانخراط في مستقبل البلاد

16 ديسمبر 2024
سوريون يحتفلون بسقوط الأسد في لندن، 8 ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط نظام بشار الأسد، تُثار نقاشات حول مستقبل سوريا، حيث ترى زينة العظمة أن هذه المرحلة تتطلب إعادة ترتيب سياسي واجتماعي، مع التركيز على تشكيل الأحزاب وإجراء انتخابات ديمقراطية لتحقيق العدالة الاجتماعية.

- نيروز ساتيك يحذر من تأثير الأيديولوجيا السلفية لهيئة تحرير الشام على النظام المقبل، ويؤكد على ضرورة صياغة دستور يعكس التنوع الاجتماعي والسياسي، مع تبني نظام برلماني يمنع الانفراد بالسلطة.

- عزام القصير يشدد على تفعيل مؤسسات المجتمع المدني ودور المثقفين في تعزيز الفكر النقدي والمشاركة في حوارات حول الهوية الوطنية والدين والسياسة.

ألقى سقوط نظام بشار الأسد بظلاله على جميع السوريين بكافة أماكن وجودهم، بعد 53 عاماً من حكم حافظ ثم بشار الأسد بالاستبداد والقمع. ومع سقوط الأسد ودخول سورية مرحلة جديدة غير واضحة الملامح وما يرافقها من تخوفات من المستقبل المقبل، انطلقت نقاشات سياسية واجتماعية عديدة حول هذا المستقبل شملت التفاؤل والحذر أيضاً. التقت "العربي الجديد" مجموعة من الأكاديميين السوريين المقيمين في المملكة المتحدة، لاستطلاع آرائهم حول هذه النقاشات، ومتطلبات المرحلة المقبلة في سورية، وأولويات العمل، ودور المثقفين والفاعلين السياسيين.

تفاؤل حذر بعد سقوط الأسد

أستاذة علم الاجتماع السياسي في جامعة كامبريدج زينة العظمة، عبّرت عن تلقّيها خبر سقوط الأسد بالقول: "قبل ليلة سقوط النظام بأربعة أيام، كنت ألقي محاضرتي الأخيرة لهذا العام لمقرر بعنوان "الإمبراطورية، الثورة، والمنفى". وبمحض الصدفة، كانت المحاضرة بعنوان "الأمل السياسي في أوقات الأزمة". وأضافت: "وصلت فصائل المعارضة إلى مشارف حماة، وبات من الواضح أن أيام النظام أصبحت معدودة. اعتبرت هذه المصادفة في التوقيت مصدر تفاؤل وأمل، فألقيت محاضرتي بحب وحماس لم أعهدهما من قبل".

وأضافت العظمة، في حديثها لـ"العربي الجديد": "سأذكر هذا الإحساس وأستقي منه دائماً. سقوط الطاغية غيّر كل شيء على المستويات العملية، الوجودية، السياسية، والنفسية. لكنه أيضاً بداية مرحلة مختلفة، وربما مرهقة، من حيث مسؤوليتنا الاجتماعية والسياسية للعمل في المجال العام. كل شيء بحاجة إلى إعادة ترتيب، بما في ذلك على الصعيد الفردي. هذه ليست إلا البداية لطريق طويل قد يؤدي إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي نادى بها السوريون ملء حناجرهم منذ مارس/آذار 2011 وسرّاً قبل ذلك بكثير".

زينة العظمة: مسألة تشكيل الأحزاب خطوة أساسية وتعتمد عليها الخطوة التي تليها، أي إجراء الانتخابات الديمقراطية

وعن التخوفات التي ترافق الفرحة عند الشعب السوري، قالت الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع الثقافي: "أخشى أن تتحول التخوفات، وكثير منها مشروع ولكن أحياناً سابق لأوانه، إلى سبب للتقاعس عن المشاركة في العمل السياسي. أعتقد أنه من الطبيعي تماماً أن نجمع اليوم بين التفاؤل والتشاؤم، أو أن نتراوح بينهما. من المفيد أن نتصالح مع هذا التراوح في أنفسنا ولدى الآخرين أيضاً، فلا ننقسم على أساس تكهنات بالمستقبل لا يمكن أن يكون لها أساس متين في هذه المرحلة المبكرة. الأمر الأهم هو ألا يتحول التشاؤم إلى تقاعس أو تخوف من المشاركة في العملية السياسية والتعبير عن الرأي في عملية التفاوض".

وأضافت: "المرحلة الحالية بعد سقوط الأسد هي مرحلة تفاوض اجتماعي، ربما تشبه أزمة هوية جمعية، وستساهم نتائجها في رسم العقد الاجتماعي الجديد. هذه التعددية ليست فقط بين مشاعر وتفضيلات الفئات المختلفة، وإنما أيضاً ضمن كل واحد منا صحية، وبرأيي لا مفر منها في ظرف كهذا. هي جزء من عملية التفاوض وهي سليمة طالما أنها حيوية، وواعية للتدخلات الجيوسياسية، ومتقبلة للتنوع الذي يميز النسيج الاجتماعي السوري".

نيروز ساتيك: مصادر القلق متعلّقة بغياب مفردات الحرية والديمقراطية عن خطاب الحكّام الحاليين وبسبب الأيديولوجيا السلفية

وعن خريطة الطريق الأنسب في الظروف الحالية لتدخل سورية نحو مرحلة انتقالية تسعى لتحقيق نظام ديمقراطي في المستقبل، اعتبرت العظمة أن الخطوة الأهم في هذه المرحلة هي صياغة الدستور، قائلة: "المفاوضات الاجتماعية التي ذكرتُها جزء من هذه العملية. من نحن؟ ما هو تاريخنا؟ من نريد أن نكون؟ كيف نريد أن نعيش؟ ما هي القاعدة العريضة من السمات الأساسية لهويتنا المشتركة؟ وما هي التبعات الدستورية للإجابات التي سنتوصل إليها؟ مسألة التمثيل في آلية هذه المفاوضات مهمة للغاية". وأضافت: "تلي هذه المرحلة مسألة تشكيل الأحزاب. ومن المهم هنا أن نتجاوز تجربتنا المُرّة مع الأحزاب السياسية طوال العقود الخمسة السابقة، كي لا نتردد تجاه السياسة المنظمة عند دخول هذه المرحلة. فالأحزاب خطوة أساسية وتعتمد عليها الخطوة التي تليها، أي إجراء الانتخابات الديمقراطية؛ الهدف الذي قدّم عموم السوريين من أجله أثماناً قد تعجز اللغة عن وصفها، لكننا ندركها بكل ما أوتينا من ألم".

ورأت العظمة أن تركيز معظم المثقفين على العمل الفكري أو السردي على حساب العمل السياسي المنظم خلال سنوات المنفى، كان له أثر سلبي على مصير الثورة من الناحية السياسية، على حدّ تعبيرها. وأعربت عن اعتقادها بأن "كل شيء اختلف الآن، وربما الإحساس بإعادة امتلاك الوطن، الذي دفع عموم السوريين للنزول إلى الشوارع والمشاركة في تنظيم الحياة العامة اليومية في بلداتهم ومدنهم، سيدفع بالمثقفين (وعموم السوريين كذلك) للمشاركة، كل بطريقته، في العمل السياسي. هذا الانخراط ضروري لتجنب إعادة إنتاج علاقات السلطة التي أوصلتنا أساساً إلى الجحيم السياسي الذي كنا نعيش فيه حتى وقت قريب

هوية وطنية جامعة

الباحث وطالب الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة ساسِكس، نيروز ساتيك، اعتبر هذه اللحظة على الصعيد الشخصي لحظة فرح وشعور بالأمان "بأن يكون لديك بيت ووطن تستطيع أن تعود إليه بعد سنوات من أحداث وتحولات عالمية والعيش في الخارج في أكثر من بلد. أمّا على الصعيد الأكاديمي، تفرض هذه اللحظة إعادة اختبار سؤالي البحثي في الدكتوراه: كيف أثّر الفضاء الثوري على أجساد اللاجئين السوريين، بالتفكير في ذلك في مرحلة انتصار الثورة".

وقال ساتيك، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن سقوط الأسد حدث تاريخي كبير يفتح الباب في سورية لبناء نظام سياسي حرّ ديمقراطي على الرغم من التخوفات. ورأى أن "التحولات الجارية لا تنفصل عمّا قبلها من ثورة وحرب. جرّب الناس الثورة واختبروا معنى الثورة في عام 2011، حيث خروج الناس بأعداد كبيرة للفضاءات العامة في الشوارع بهدف التغيير، كما جرّبوا الألم والمعاناة خلال الحرب بمراحلها المختلفة، وكلاهما انعكسا في مشاعر وأفكار الناس والمواقف السياسية ليلة سقوط النظام. إن إسقاط النظام هو انتصار لسردية الثورة على حساب سرديات الحرب، بمعنى انتصار فكرة الثورة وتتويج لهذه المرحلة التاريخية".

وعن التخوفات التي ترافق فرحة سقوط الأسد عند الشعب السوري، اعتبر ساتيك هذه القضية مرتبطة بالمسألة الأيديولوجية لـ"هيئة تحرير الشام" وكيفية شكل النظام المقبل، قائلاً: "هل ستُفرض أيديولوجيا هيئة تحرير الشام على المجتمع السوري وتهيمن على بنية النظام المقبل؟". واعتبر أن هناك العديد من الأمور المطمئنة حصلت الأسبوع الأخير على صعيد الخطاب والممارسات "لكن تبقى هناك مصادر قلق متعلّقة بغياب مفردات الحرية والديمقراطية عن خطاب الحكّام الحاليين، وبسبب الأيديولوجيا السلفية والتخوف من فرضها اجتماعياً او سياسياً". وأكد أنه لا بد من التشديد على أن الهدف النهائي من إسقاط النظام هو بناء نظام ديمقراطي طالب به السوريون منذ عام 2011. وأشار ساتيك إلى تخوف آخر هام هو ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في التوغل واحتلال أراضي سورية بشكل مستمر، من دون أن تكون هناك قدرة على ردّ فعل محلي لردع العدوان الإسرائيلي.

عزام القصير: هناك مشكلة غياب أي معارضة قوية وأي مجتمع مدني متين للوقوف في وجه تحرير الشام وضبط ومراقبة تصرفاتها

وعن خريطة الطريق الأنسب في المرحلة المقبلة في سورية، قال ساتيك: "من خلال قراءتي للتحولات السياسية في العالم العربي أعتقد أن النظام البرلماني هو الأنسب لسورية، ولبلد فيه الكثير من التنوعات الاجتماعية والتوجهات السياسية. أعتقد أن النظام البرلماني هو الأنسب لهذا التنوع ويخلصنا من فكرة الرئيس والشخص الأوحد التي عهدناها خلال عقود في سورية عبر النظام الرئاسي". وأوضح أنه "في النظام البرلماني يصعب الانفراد بالسلطة، لأن الأحزاب دائماً بحاجة إلى تحالفات لتشكيل كتل برلمانية، والذي يتيح المساومة على القضايا الاجتماعية والسياسية". وأكد أن النظام البرلماني "سيشمل ضمنه التنوعات الاجتماعية والسياسية المختلفة التي تتبدل، ما يتيح مشاركة سياسية أوسع بشكل أكبر من النظام الرئاسي".

وأكد ساتيك "وجود دور هام للمثقفين السوريين وضرورة ملحّة للانخراط في الشأن السياسي، وليس فقط التنظير في هذه المرحلة"، داعياً إلى "العودة إلى سورية والمشاركة في صنع الحدث كي لا يُترك فقط للفاعلين الحاليين. يجب على المعارضة السورية أن تبقى على حوار مع الذين يقودون عملية التغيير". ودعا إلى أن يكون هناك حوار على شكل الحكم "الذي لا بد أن يكون ديمقراطياً حراً، تُكفل فيه الحرية الاجتماعية والسياسية والعدالة الانتقالية ضمن مسارات متوازية".

لا أحد يريد استبدال ديكتاتور بآخر

الأكاديمي والباحث السوري عزام القصير المقيم في لندن قال، في حديث لـ"العربي الجديد"، حول ما تعنيه هذه اللحظة بالنسبة إليه على الصعيد الشخصي: "ما يحدث الآن يُجسّد موضوع رسالة الدكتوراه (جامعة لندن) التي أنجزتها منذ أكثر من ثلاث سنوات، والتي درست فيها التحولات التي مرت بها جبهة النصرة وكيف انتقلت إلى مرحلة هيئة تحرير الشام. اليوم، أجد ما يحدث اختباراً لفرضياتي، وأشهد نجاح بعضها وفشل بعضها الآخر". وأضاف: "الواقع هو أفضل مختبر للباحثين في حقول السياسة والمجتمع. وأشهد اليوم كيف أن ديكتاتورية الأسدين الأب والابن أفقرت الشعب وحرمته من أبسط حقوقه وجعلته يصفق لأي مجموعة قادرة على استبدال النظام وتحقيق شيء من الأمان وهامش بسيط من الحرية".

واعتبر القصير أن مشاعر الفرح الممتزج بالقلق بعد سقوط الأسد مبررة ومفهومة عند الشعب السوري، قائلاً: "من ناحية أولى، انزاح عن صدر الشعب السوري عبء ثقيل كان لفترة قريبة حلماً بعيد المنال. لكن مع انهيار النظام وفرار الأسد وسيطرة مجموعة إسلامية مسلحة موضوعة على قوائم الإرهاب، من الطبيعي انتشار تخوّف من الفترة المقبلة. فلا أحد يريد استبدال ديكتاتور بآخر. والمشكلة الأخرى هي غياب أي معارضة قوية وأي مجتمع مدني متين للوقوف في وجه هيئة تحرير الشام وضبط ومراقبة تصرفاتها".

وحول خريطة الطريق الأنسب في الظروف الحالية بعد سقوط الأسد كي تدخل سورية نحو مرحلة انتقالية تُحقق نظاماً ديمقراطياً، دعا القصير إلى تفعيل النشاطات الأهلية وإحياء مؤسسات المجتمع المدني، بعد عقود من هيمنة مؤسسات الدولة وأجهزة النظام. واعتبر أن نشاط المجتمع المدني "ضروري لموازنة المشهد وممارسة الرقابة والضغط على هيئة تحرير الشام وقادتها، وإلا سيعود الاستبداد من نافذة أخرى". كما قال إن للسوريين في المغترب "دوراً محورياً اليوم، فعليهم نقل الخبرات لسورية في شتى المجالات، ويمكن للتنظيمات السياسية والمبادرات التي نشأت في المهجر، أن تدخل المعترك السياسي وتفرض نفسها كلاعب قوي ومنظم ومدافع عن التعددية والديمقراطية".

أمّا عن دور المثقفين والفاعلين السوريين في مرحلة ما بعد سقوط الأسد وأولويات العمل، فاعتبر الباحث المقيم في لندن أن سورية عانت لأكثر من نصف قرن "من الاستبداد وقمع حرية التعبير، ولم يكن للفكر الحرّ مجال للتأثير في وعي الناس". وأضاف أن هناك فرصة للمثقفين اليوم "للعب دور تنويري، وللانخراط في حوارات جدّية وحقيقية وشفافة حول مفاهيم الهوية الوطنية والانتماء والعلاقة بين الدين والسياسة وغيرها". كما رأى أن للمثقفين دوراً لتشجيع الفكر النقدي الحر "الذي سيُسهم في طيّ صفحة الحزب الواحد والأيديولوجيا الواحدة. لكن ذلك الدور مرهون بقدرة ورغبة المثقفين السوريين في الاندفاع بشجاعة لملء فراغ السياسة والفكر، ولمنع محاولات التيارات الدينية احتكار تلك المساحات".

المساهمون