بعد 9 أشهر في الحكم، أظهرت حركة طالبان الأفغانية أنها لا تزال عالقة في نهجها السابق الذي كانت تتبناه في التسعينيات، مخالفةً توقعات الأفغان وبعض الأطراف الخارجية بأنها قد تغيّرت في السنوات الأخيرة بعد تعاملها مع العالم.
فقد تراجعت الحركة عن إعلانها السابق افتتاح المدارس الثانوية للفتيات، قائلة إنها ستظل مغلقة إلى أن تُوضع خطة وفقاً للشريعة الإسلامية. كما أمرت النساء الأفغانيات بتغطية وجوههن، واستبعدتهن إلى حد كبير من الوظائف العامة، وفرضت قيوداً على حرية سفرهن.
فضلاً عن التضييق على المجال العام والساسة والمثقفين ومختلف أطياف الشعب، في إطار محاولات الحركة للسيطرة على المجتمع ولا سيما عبر وزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لتؤكد أنها ما زالت عالقة في الماضي، وربما تسعى لإعادة فرض ما كانت تؤمن به قبل عقود عندما كانت في السلطة، والدفع مجدداً بمشروعها الأيديولوجي من خلال فرض تصورها للشريعة.
هذه التطورات دلت على أن الحركة لا تزال ملتزمة بأيديولوجيتها المتشددة، ما جعل الانزعاج والتململ يشتد ليس فقط بين أطياف الشعب والمجتمع الدولي فحسب، بل حتى داخل صفوف "طالبان" نفسها.
انتقادات واستياء داخل صفوف حركة "طالبان"
ويبدو أن بعض قادة "طالبان" مستائون من سياسات الحركة، خصوصاً المتعلقة بالنساء وتعليم الفتيات والتعامل مع العالم ومع ملفات عديدة أخرى، وأيضاً بسبب الفكر السائد (يقوده شيوخ المدرسة الدينية)، ولأن المسلحين على الأرض هم من يدافعون عن هذه السياسات، لا يمكن للكثيرين رفع أصواتهم.
بدأ بعض قادة "طالبان" ينتقدون علناً سياسات الحركة
في الأيام الأخيرة، بدأ بعض قادة "طالبان" ينتقدون علناً تلك السياسات، ويدعون قيادة الحركة إلى مراجعة الأمور قبل فوات الأوان.
ومن هؤلاء نائب وزير الخارجية، نائب رئيس المكتب السياسي لـ"طالبان"، الملا شير محمد عباس ستانكزاي، الذي تحدث علناً وبكل صراحة، في كلمة له أمام قادة "طالبان" في ذكرى مقتل زعيم الحركة السابق الملا أختر منصور الذي صادف في 22 مايو/أيار الحالي، وقال إن التعامل مع المرأة الأفغانية غير مناسب، وهي نصف المجتمع، وإغلاق المدارس في وجهها غير لائق.
وأشار إلى أن إغلاق قطاع بكامله بحجة وجود الفساد أمر غير منطقي، وأن القضاء على الفساد من واجبات الحكومة، لافتاً إلى أن "المرأة الأفغانية باتت محرومة من كل حقوقها، لذا علينا أن نغيّر سياساتنا".
كما قال إنه، خلال ستة عقود من حياته، رأى "13 رئيساً للبلاد، آخرهم الملا هيبت الله أخوند زاده" زعيم الحركة، "وكلهم ذهبوا بعد أن تعارضوا مع الشعب، فالشعب له كلمة ولا يمكن لأحد أن يحكم هذه البلاد من دون إرضائه".
كذلك، قال القيادي البارز في الحركة مولوي لطيف الله حكيمي، وهو أحد المقربين من وزير الدفاع ونجل الملا عمر الملا يعقوب، في كلمة له أمام اجتماع لقادة "طالبان" في كابول أخيراً: "عليكم أن تفهموا أن هذا الشعب مظلوم جداً، وقد مورست عليه أنواع من العنف والظلم، فإياكم أن تزيدوا في معاناته".
وأضاف: "نرى أن المسلحين يدخلون منازل الناس ويفتشون جوالاتهم، ويرغمونهم على فعل أعمال أو ترك أخرى، ذلك غير مسموح به لا أخلاقياً ولا شرعياً".
وخاطب الحركة بالقول: "وسعوا صدركم لأبناء الشعب قبل فوات الأوان". ثم توجّه لوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلاً "عليكم بالتعامل بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجنب ممارسة القوة والظلم مع أبناء شعب يعاني منذ أربعة عقود".
ستانكزاي: لا يمكن لأحد أن يحكم هذه البلاد من دون إرضاء شعبها
وسبق أن قال عضو المكتب السياسي للحركة أنس حقاني، في خطاب له في ولاية خوست قبل أيام، إنه "لا يجب التضييق على الناس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، مضيفاً "علينا أن نتعامل مع الشعب الأفغاني بكل عطف ومرونة وألا نضيّق على أحد بإجراءات أو ذرائع مختلفة".
لا رضا على سياسة الحكومة الأفغانية
ولاقت كل تلك المواقف ترحيباً من أطياف الشعب الذي تضايق من سياسات "طالبان" والوضع المعيشي بشكل عام. وفي هذا الشأن، قال الأكاديمي الأفغاني حفيظ الله تسل، لـ"العربي الجديد"، إن "لهذه المواقف دلالات كثيرة، منها أن كل قيادة طالبان ليست راضية عن سياسة الحكومة الحالية، وأن بعضاً من هؤلاء القادة يدركون ما تمر به أفغانستان في الوقت الراهن في كل المجالات؛ السياسية والاقتصادية والمعيشية، وحتى الاجتماعية".
وتابع "كما أن هذه المواقف تشير إلى وجود خلافات داخل الصف القيادي في الحركة، فنبرة كلام ستانكزاي تشير إلى أنه منزعج جداً، ومستاء مما يحدث، لا سيما أن هناك تسريبات تؤكد وجود فجوة كبيرة بين طالبان القندهاريين وبين شبكة حقاني، خصوصاً في موضوع تعليم الفتيات وحقوق النساء والتعامل مع بعض الدول الصديقة".
أكاديمي أفغاني: مواقف بعض قادة الحركة تشير إلى وجود خلافات داخل الصف القيادي في "طالبان"
وأضاف: "فشلت طالبان في سياساتها الخارجية إلى حد كبير، إذ لم تتمكن إلى الآن من التعامل المناسب مع العالم، خصوصاً الجيران وبعض الدول الصديقة التي كان بإمكانها أن تشكل لها لوبياً في العالم".
ورأى تسل أن "طالبان بتعاملها الحالي، خصوصاً ما تقوم به وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تخلق لنفسها عقبات بشكل يومي في إطار انتزاع الاعتراف الدولي، وهو ما يدفع ثمنه الشعب".
وأوضح أنه "بسبب ذلك، نظام البنوك معطل، والتجارة متعثرة، والأمور الاقتصادية لا تسير بشكل مناسب، بينما طالبان لم تتأثر. فقد نزل عناصرها وقادتها من البادية والجبال، ويعيشون في المدن ويقتنون سيارات فخمة، وموارد أفغانستان كافية لأن تسيّر الحركة بها أمور حكومتها الحالية. ولكن الشعب متضايق، بالتالي هو سينفجر يوماً ما، وهذا ما يدركه بعض قادة طالبان".
وكان مجلس الأمن الدولي قد دعا، في بيان تبناه يوم الثلاثاء الماضي، "طالبان" إلى "التراجع بسرعة عن السياسات والممارسات التي تقيّد حالياً حقوق الإنسان والحريات الأساسية للنساء والفتيات الأفغانيات". وأعرب أعضاء المجلس الـ15 عن "قلقهم العميق إزاء التراجع المتزايد لاحترام طالبان حقوق الإنسان والحريات الأساسية للنساء والفتيات في أفغانستان".
وذكروا في هذا الصدد "فرض قيود تحد من الوصول إلى التعليم والعمل وحرية التنقل والمشاركة التامة والمتساوية والهادفة للنساء في الحياة العامة". كذلك، دعا مجلس الأمن "طالبان" إلى إعادة فتح المدارس لجميع التلميذات من دون مزيد من التأخير، معرباً عن "قلقه العميق" إزاء الالتزام المفروض على النساء بتغطية وجوههن في الأماكن العامة وخلال البث عبر وسائل الإعلام.
مضايقة "طالبان" ساسةً أفغان سابقين
وليس تعامل الحركة مع عامة الشعب فقط كان محط استياء، بل أيضاً سياساتها مع مسؤولين سابقين. فبعدما تم ترويج أنباء عن أن "طالبان" تعمل من أجل عودة من خرجوا من البلاد والاستفادة منهم في تحسين الأمور، لم يشجع تعاملها مع الساسة الموجودين في أفغانستان الخارجين من البلاد على العودة.
على سبيل المثال، مُنع الرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي، الذي كان يعتبر "طالبان" قبل مجيئها إلى كابول وعناصرها إخوة له، من السفر إلى الإمارات للمشاركة في مراسم العزاء بوفاة رئيس الإمارات الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان.
كما استخدمت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نبرة حادة تجاهه بعد أن انتقد قرار "طالبان" فرض غطاء الوجه على المرأة الأفغانية. وقالت الوزارة إن كرزاي "خلال السنوات العشرين الماضية، فعل كل ما يمكن في حق المرأة الأفغانية لإرضاء الأجانب، ولكنه لم يُظهر زوجته في وسائل الإعلام".
وفي تعليق له على ذلك، قال الكاتب والإعلامي الأفغاني سيد محمد إبراهيم خيل، لـ"العربي الجديد"، إن "طالبان تعلن من جهة تشكيل لجنة من قادتها من أجل التواصل مع من خرجوا من البلاد من الساسة والكادر العملي ليعودوا إلى البلاد، ولكن في الداخل تعاملها أسوأ ما يمكن مع الساسة والمثقفين".
"طالبان" لا تسمح للساسة السابقين بالخروج من البلاد، إلا إذا قدموا ضمانات
ولفت إلى أن "طالبان لا تسمح للساسة السابقين بالخروج من البلاد، إلا إذا قدموا ضمانات، على سبيل المثال (رئيس لجنة المصالحة السابق) عبد الله عبد الله عندما سافر إلى الهند ليزور أهله في عيد الفطر الماضي، كرزاي ضمن عودته، في حين أن الأخير لم يسمح له بالخروج للمشاركة في عزاء رئيس الإمارات".
وتساءل خيل: "إذا كان هذا هو تعامل الحركة مع الموجودين في أفغانستان، فكيف يمكن للسياسيين الآخرين أن يعودوا إلى البلاد؟"، لافتاً إلى أن الحركة "تقوم بإقالة المثقفين والمتعلمين الموجودين في الحكومة، ليحل محلهم رجال طالبان، وهي في الوقت نفسه تطلب منهم ألا يخرجوا من البلاد، ومن الذين خرجوا أن يعودوا فقط مقابل العفو عنهم، وهذا منطق عجيب".
وكانت لجنة "طالبان" المخولة التنسيق مع من خرجوا من البلاد من الساسة والمثقفين، والتي يقودها وزير النفط وعضو المكتب السياسي مولوي شهاب الدين دلاور، قد أعلنت، في مؤتمر صحافي في كابول في الـ21 من الشهر الحالي، أن الحركة لن تتفاوض مع أي من الساسة، بل شكلت اللجنة من أجل تشجيعهم على العودة والعيش في أمان من دون ملاحقات من القضاء أو من قبل الحركة، مع توفير الحراسة والأمن لهم إذا دعت الحاجة.