9 نيسان: الاستبداد يجدّد نفسه
عشية الذكرى العشرين لاحتلال العراق، والذي فتح الباب أمام تجربةٍ ديمقراطيةٍ كان يقال عنها إنها رائدة في المنطقة، وربما تكون نبراساً لـ"دمقرطة" المنطقة كلّها، حسب الدعاوى المتفائلة للمحافظين الجدد المتحلّقين حول جورج دبليو بوش، من المؤسف أن تقرير مجلة الإيكونومست عن مستوى الديمقراطيات في العالم، يصنّف العراق في خانة الدول السلطوية وليست الديمقراطية!
إنها نتيجة مُحزنة ومخيّبة للآمال أن يعود العراق من الشبّاك إلى فضاء الاستبداد السياسي بعدما خرج منه من الباب، مع زوال نظام صدّام. حيث تتراكم الملفّات غير المنجزة على طاولة الطبقة السياسية العراقية، حسب وعود الدستور العراقي نفسه الذي كُتب في 2005، بالإضافة إلى ملفّات أخرى متراكمة تتعلق بانتهاكات هذه الطبقة السياسية لحقوق الإنسان وللحريات وحقّ الأفراد بالتعبير عن أنفسهم بالوسائل الدستورية والقانونية، وملفّات أخرى تتعلّق بالتخادم بين أفراد هذه الطبقة السياسية ونخبها من أجل تقاسم المال العام في ما بينها.
وخلال ذلك كلّه، لم تترك هذه الطبقة السياسية أي سيئةٍ كانت تنسب إلى نظام صدّام إلا وفعلت ما يشبهها أو يزيد عليها، فإن كان صدّام يُتّهم بإنشائه المقابر الجماعية ضد المدنيين، فقد صنعت الأحزاب والمليشيات المنضوية في الحكومات العراقية المتعاقبة ما بعد 2003 أكثر من مقبرة جماعية، بعضها لم يُكشف عنها. أما التفريط بسيادة العراق أو ملء السجون بالمعارضين السياسيين أو أصحاب الرأي المخالف، فواقع السجون العراقية اليوم يشهد مآسي مهولة، ويقضي كثيرون موتى بسبب الظروف الصحية السيئة التي يعيشون فيها. .. التهجير والاستيلاء على الأملاك العامة، وإجلاء السكّان من مناطقهم السكنية، وهي من التهم المعلّقة برقبة نظام صدّام، فعل نظامنا الحالي ما يشابهها أو أسوأ منها.
في المجمل، لم يترك السياسيون العراقيون لصدّام حسين إلا القصف بالسلاح الكيميائي، وهذا أيضاً كان مشروعاً ولا غبار عليه، عند بعض الأطراف السياسية، خلال عمليات تحرير الموصل من "داعش"، وإنْ كان على مستوى الأمنيات، ولم يبدُ أن الكلام عنه خيار عسكري خاطئ أو كبيرة من الكبائر.
كان يفترض أن تقود الآليات الديمقراطية ولامركزية السلطة واعتماد النظام الفيدرالي وتوسيع صلاحيات المحافظات إلى إنتاج محرّكات داخلية تقود إلى إنضاج النظام السياسي وتربية المجتمع على الديمقراطية، ولكننا وصلنا في واقع الحال إلى نوعٍ من الانسداد السياسي، ووضعت الأحزاب الكبرى ما يكفي من العراقيل أمام إنضاج جيل سياسي جديد يرث العمل السياسي من الأجيال السابقة، ويعزّز مصداقية المشاركة الشعبية في صنع القرار، ويقوّي المؤسّسات الداعمة للنظام الديمقراطي.
كان الناس في زمن نظام صدّام قد وصلوا إلى حالة من اليأس بأن هذا النظام الاستبدادي لا يمكن تغييره داخلياً، ما لم تأت قوى عظمى تُسقطه، وهذا خيارٌ لم يكن يصدِّق أحدٌ أنه سيتحقّق يوماً. واليوم وصل المجتمع إلى حالة من اليأس مشابهة بإمكانية أن يتغيّر النظام الحالي "الذي يعزّز من نهجه الاستبدادي" بالوسائل الداخلية. وحتى الحراك الشعبي من خلال التظاهرات، فإن إمكانية أن يكون هناك شيء جديد يشبه تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أصبح أمراً صعباً، فالعوامل التي تُنتج حراكاً شعبياً بمثل هذا الحجم عديدةٌ ومعقّدة، وقد عملت الأحزاب المسيطرة على تفتيتها من الداخل بأكثر من وسيلة.
يقف العالم اليوم في دائرة حربٍ باردة جديدة قطباها الصين وحلفاؤها من جهة، وأميركا والعالم الغربي الليبرالي من جهة ثانية. والعراق، كما هو حاله في الحرب الباردة السابقة، يقع على حدّ مطحنة الرّحى في المنتصف، ولم تعد أميركا التي أسقطت نظام صدّام بالأساس، ورعت التجربة السياسية الجديدة، مهتمة كثيراً بملفّ حقوق الإنسان للطبقة السياسية الحالية، ولا ما ارتكبت من جرائم مروّعة، وإنما بإمكانية احتواء هذه الطبقة وسحبها من الهيمنة الإيرانية، هذه الهيمنة التي تستقوي بالصين، الخصم الأكبر لنفوذ أميركا في المنطقة.
عشية الذكرى العشرين لزوال نظام استبدادي بهراوة الاحتلال، لم يتبق من التجربة إلا وجه الاستبداد العاري، وركام من اليأس في مواجهته أو إزاحته، لأنه مدعوم من القوى الدولية نفسها التي أزاحت الاستبداد السابق.