دولة المؤسّسات
كثيرة التشابهات بين لحظتي بغداد 2003 ودمشق 2024، ولست هنا بصدد تعدادها فهي كثيرة، وتولّى كثيرون من الكتّاب والمعلّقين سرد جوانب منها خلال الأسبوع الماضي. ما يهمّني هنا هو التعليق على المسرح الذي افتتح فجأة تحت أضواء ساطعة عشية سقوط النظامين البعثيَّين، للنقاش بين مختلف الأطراف، داخلية وخارجية، حول الإسلام السياسي والديمقراطية.
في بغداد، بدايات ذلك الصيف الرائق (مايو/ أيّار) للعام 2003، حين كانت الأجواء تحفل بكمّ هائل من التفاؤل، والآمال التي تلامس التوقّعات الخيالية، قرأنا مقالاً لتوماس فريدمان، يتنبأ فيه أن شكل نظام الحكم في "العراق الجديد" سيكون أكثر علمانيةً من إيران، وأكثر محافظةً من تركيا.
قبلها بشهرين، كان رجب طيّب أردوغان قد تولّى منصبَّ رئيس الوزراء في تركيا، المنصب الأكثر فاعلية في حينه من منصب رئيس الجمهورية ذي الصلاحيات الرمزية، ليفتتح عهداً فاصلاً في تركيا الحديثة. لاحقاً، بعد أقلّ من عقد، سيوضع أنموذج أردوغان على الطاولة لمقاربة الأفق الذي يمكن أن تنتهي إليه تجارب "الربيع العربي"، فيحكم حزبٌ إسلامي داخل دولة مدنية علمانية، وبحزمة الآليات الديمقراطية في تداول السلطة. ولكنّ هذه المقاربة كانت غائبةً عن فريدمان في بدايات صيف 2003، وتلقّينا مقالته بسذاجة، أو بدفعٍ من تفاؤل فائض، باعتبارها إشارات من شخص خبير لما يمكن أن يكون عليه الوضع في "العراق الجديد".
لم تكن هناك مشكلة مع اكتساح الأحزاب الإسلامية الانتخابات الثلاثة، التي جرت في عام 2005، وما تلاها من انتخابات، ولا أن يكون حزب الدعوة الإسلامية (النسخة الشيعية من الإخوان المسلمين)، في رأس السلطة للفترة الأكبر من 2003 وحتى 2024، لأن الاعتقاد السائد، في تلك البدايات، عند غالبية النُخَب العراقية، أن هذه الأحزاب ستحرص على بناء مؤسّسات الدولة، وأنها تريد أن تحكم من خلالها، لا بامتطاء هياكل مؤسّسات هشّة، لا يرغب صانع القرار بإصلاحها أو بجعلها تعمل بكفاءة، لأنه يخشى الخضوع للقانون، ويشعر بالريبة تجاه أيّ سلطة أعلى منه.
هذه المقاربة المطاطيّة للقانون، وأنه يمكن استخدامه حين الحاجة، والعبور عليه حين لا تكون هناك مصلحة من الأخذ به، بتوافق وتضامن بين جميع الأحزاب والقوى السياسية، سرعان ما تحوّلت عرفاً غير مكتوب، سهّل عمليات فساد واسعة النطاق وغير مسبوقة، وعطّل المهام الضرورية لأيّ نظام سياسي لبناء الدولة.
مع ذلك، كانت الحريّة النسبية تتيح لكثيرين من الإعلاميين والمثقّفين والناشطين أن يشيروا بأصابعهم إلى مواطن الخلل والفساد، وكانت هناك مرونة في النظام السياسي تتيح لهم التفاعل مع هذه الآراء، وكان الشعور بالفاعلية عند طبقة النخبة، وأنهم ينشّطون الرأي العام، ويساهمون في صناعة السياسات، يجعلهم يشعرون بالولاء والانتماء للنظام السياسي والدولة القائمة، ويدافعون عنهما، حتى وإن كان الفاعلون فيهما ليسوا بالكفاءة المطلوبة، أو يمارسون خروقات قانونية وأخلاقية.
لكن القطع الذي حصل هو ما بعد 2014، حين قرّر النظام السياسي الانقلاب على الرأي العام والقانون والدستور، وملاحقة الأصوات الناقدة والمُعترِضة، ليتبلور ذلك كلّه بمواجهة دموية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أغلقت المجال العام، وسلّمت البلد ومؤسّساته للمسلّحين.
تحوّلت الدولة التي كنّا نأمل أن تكون نموذجاً بينياً، وفق الوصف الذي قدّمه توماس فريدمان، أو مقارباً لأنموذج الدولة التركية تحت حكم الإسلام السياسي، مُجرَّد دولة مليشيات، يستطيع أيّ راكب درّاجة في الليل أن يقتل أيّ شخص يمشي في الشارع، من دون محاسبة ولا ملاحقة قانونية. ويُجرّ شاب مُختلٌّ عقلياً، حسب الأنباء المتداولة، ويُضرب ويُعذّب، لأنه مزّق صورة ضابط إيراني موضوعة في الشارع. هذا الأنموذج البائس لا نريده لـ"سورية الجديدة"، ولا لقواها السياسية الفاعلة اليوم، فهو أنموذج يجعل النظام هشّاً، ويحلم قطاع واسع من مواطنيه بالخلاص منه، والعاقل من اتّعظ بغيره.