30 أكتوبر 2024
حرية الإعلام والحريّات في الجزائر: هل من كمّامات؟
احتلّت الجزائر، في تّقرير منظّمة مراسلون بلا حدود، أخيراً، مرتبة متأخّرة (146 على 180 بلداً)، باعتبار مؤشّرات تقيس حريّة الإعلام والصّحافة. وفي الوقت نفسه، هناك معركة إعلامية نشبت بين مواقع إلكترونية وإذاعة افتراضية مع السّلطة، باعتبار آخر يتحدّث حول التّمويل الخارجي لهذه الوسائل الإعلاميـة، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة لفرز الحقيقة من الزيف، خصوصاً أن الظّرف حسّاس، ويحتاج منّا جميعاً إلى التّلاحم، وليس الاختلاف، إلى حين ارتفاع جائحة كورونا وزوال تداعياتها.
قال وزير الاتّصال الجزائري، عمار بلحيمر، إن "مراسلون بلا حدود" من المنّظمات التابعة لأدوات القوّة الناعمة الفرنسية، مع جملة من وسائل الإعلام (قنوات تلفزيونية ومحطّات إذاعية) دأبت على انتقاد الحريات في الجزائر، على أسس يمكن لبعضها أن يكون صحيحاً، ولكن، بما أنّها فرنسية، فإنّ الشكّ والرّيبة يلفّان من يعمل فيها، ومنهجية إعداد التقارير، والمؤشرات التي ترتكز عليها للتصنيف، ثمّ، في الأخير، التّعليقات التي تتبع منحنيات تلك المؤشّرات، والتي تتعمد النّيل من الجزائر، وهي، هنا، كلّها أسباب تدعو إلى التحفّظ على نتائج ذلك التّقرير.
على الرّغم ممّا سبقت الإشارة إليه، هل يمكن التّغاضي عن تعامل السّلطة مع الإعلام، في الجزائر، منذ إقرار الحراك هدنة بسبب الوضع الصّحي وجائحة كورونا، وسعيها، من خلال قوانين جديدة، إلى تكميم الأفواه، بحجّة أن ثمّة أصواتاً ترتفع، لتنال من وحدة البلاد أو رموزها؟
يأتي هذا السّؤال على خلفيّة الجدال الدّائر حول حريّة الإعلام والصّحافة وارتباط ذلك، من ناحية، بالتّمويل الخارجي، وفق تصريح الوزير، أو، من ناحية أخرى، بالإشهار (الإعلان) العمومي والمساعدات، للإبقاء على العناوين من خلال دعم ورق الطباعة، وكلا الأداتين لا علاقة لها بالحرية وتوفيرها للإعلاميين، لأنّ التّمويل الخارجي أو الأيادي الخارجية حُجّة تُرفع كلّما كانت هناك أصوات ترتفع لانتقاد السّلطة ومقاربتها السياسة العامة، على كل الأصعدة، فيما الإشهار العمومي ودعم ورق الطّباعة ليسا منّة من السّلطة، بل هي مقاربة وممارسة ديمقراطية تسمح للصّوت الآخر بالوجود. ذلك أنه حتّى في بعض الفضاءات النيوليبرالية هناك مساعدات للإعلام وللصّحافة، لأنّ تلكما الأداتين إنّما هما فُسحة من روح حرية التعبير التّي هي عماد العقد الاجتماعي بين السّلطة وشعبها، وتُقتطع من ضرائب يدفعها كل الناس، كلّ وفق مصدر دخله، كما يمكن اعتبار حرية التعبير جزءاً من عملية مراقبة سير السياسة العامة وصرف المال العام، وهما عصب الديمقراطية في العالم.
في الحقيقة، تتمتّع الجزائر بدرجة من حرّية التعبير مع وجود خطوط حمر لا يمكن تجاوزها، وهذا منذ انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 1988. ولكن، في العقدين الأخيرين، في عُهدات
الرّئيس السّابق الأربع، بالذات، تقلّصت تلك الحرّيات، شيئاً فشيئاً، وخصوصاً بمنع المظاهرات في العاصمة منذ 2001، وفرض قيود على الإعلام بأداة الإشهار العمومي التي كانت تُستخدم لخنق وسائل إعلام تحاول الحديث عن تجاوزات، فساد أو التعرّض لشخصيات، من قلب النّظام أو من حاشيته، بالنّقد، إضافة إلى قيودٍ حالت دون امتلاك الجزائر قنوات فضائية حتى وقت قريب، وحتّى عندما بدأت في الظّهور فإنّ مكاتبها في الخارج، وتعمل خارج القانون، باعتبار الفراغ القانوني بشأن تلك القنوات.
وإذا عدنا إلى العام الماضي وانطلاق شرارة الحراك في 22 فبراير/ شباط 2019، فإنّ وسائل الإعلام تجاهلت الحراك في بدايته، ثم حاولت الإضاءة عليه، باعتباره حركية تغيير، وذلك بعد قرار قيادة الأركان بفرض استقالة الرّئيس السّابق لتتغير التغطية، وتغيب، تماماً، وشذّت عن تلك القاعدة صحف معروفة بخطّ تحريري معارض.
وعلى الرّغم من اعتقالات ومحاكمات لوجوه الحراك ومعارضة للانتخابات الرّئاسية داخل الحراك، بسبب غياب شروط الشفافية، بما يكفل اقتراعاً ديمقراطياً، إلّا أنّ الإعلامين، الرّسمي والخاصّ، في أغلبية وسائلهما، امتنعا عن منح الكلمة للمعارضة، بل صمّا آذانهما عن الرّأي الآخر في سلسلة النقاشات بشأن برامج المرشّحين للرّئاسة، كما استمرّا في تغاضيهما عن تغطية حراك الجمعة والثلاثاء إلى غاية الإعلان عن الهدنة الصحية، وتعليق كل المظاهرات بداية مارس/ آذار الماضي.
استمر الأمر حتى صعود الرئيس عبد المجيد تبّون إلى سُدّة الرّئاسة في ديسمبر/ كانون الأول 2019، على الرّغم من ندائه إلى فتح باب الحوار مع الحراك، ومبادرته بإطلاق سراح عشرات المعتقلين، إلّا أن التعامل الإعلامي بالتّجاهل استمرّ. وبعد دخول البلاد الحجر الصحي، مع ظهور جائحة كورونا، تمّ استدعاء ناشطين للتحقيق على مستوى الأمن، كما تم تجديد حبس نشطاء موقوفين احتياطياً، بل إنّ محاكمة السياسي كريم طابو شهدت جدلاً بين النيابة العامة، والمحكمة وطاقم الدفاع عنه، خصوصاً أن المحاكمة وظروفها أدت إلى إصابته بوعكة صحية شديدة أدخلته المستشفى.
إعلامياً، تمّ حجب مواقع تُعدُّ، وفق معايير تعامل السّلطة مع الإعلام، معارِضة وشديدة الانتقاد
للسّلطة، كما أصدرت وزارة الاتصال، قبل أيّام، بياناً اتّهمت فيه بعض وسائل الإعلام بتلقّيها مساعدات مالية من الخارج، وهو ما يمنعه القانون الجزائري، وهو الاتّهام الذي يعيد، من وجهة نظر تلك الوسائل الإعلامية، إلى الواجهة، حجّة اليد الخارجية، عندما يتعلّق الأمر بمعارضة سياسات السّلطة وانتقادها أو الدّعوة إلى حوكمة على أسس ديمقراطية، وكأنّ البلاد لم تقم بحراك لأكثر من عام وكأنّ الجزائر الجديدة، التي يتحدّث بشأنها الرّئيس، في لقاءاته مع الصحافة، لم تُولد بل لن ترى النّور، إلى إشعار لا نراه قريباً، في الجزائر.
بالرّجوع إلى ما تحدثت عنه مقالة سابقة للكاتب، في "العربي الجديد"، عن وجوب انتقاد الحكومة وسياساتها في هذا الظرف الحساس، بما يخدم الصالح الجزائري العام، أي بالانتقاد البناء، فإن ما تقوم به السلطة، حالياً، هو إسكات لكل صوت يرتفع بالانتقاد، سواء جاء عبر الإعلام أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولئن أعطيناها الحق في توقيف من ينشر الهلع والشائعات، وخصوصاً بشأن تفشي الجائحة، إلّا أن ذلك لا يجب أن يعمّ كل الأصوات التي ترتفع لانتقاد النقائص، أيّاً كان نوعها، مما يمكن أن يصحح الأخطاء ويوجه إلى المساعدة في اتخاذ القرارات الصحيحة، خصوصاً أن الإشكالية الكبرى، في الجزائر، هي في معادلة أطرافها ثلاثة، تتمثّل في الحالة المتهالكة للمنظومة الصّحية، من ناحية، وكيفيّة التّوفيق بين قرار الإغلاق، لمنع تفشّي الفيروس، ومساعدة الفئات الهشّة في المجتمع، ممّن ليس لها دخل، وتحتاج إلى الخروج للحصول على بعض المال لتقتات منه، من ناحية أخرى.
تحتاج تلك النقائص إلى عين ساهرة تنقل، إلى السلطة، عبر وسائل الإعلام، وبخاصة الافتراضية منها، أخبارها لتتخذ القرارات بشأنها، وهي مساعدة ثمينة، لا يمكن أن تتوفر من دون أن تأتي في إطار حزمة تتضمن الدعوة إلى حوكمة رشيدة، ديمقراطية في اختيار الأجدر في المكان المناسب، ومراقبة شديدة لمقاربات السياسة العامة، وصرف المال العام الذي أصبح شحيحاً بفعل تهاوي أسعار النفط، وهي المدخول الرئيس لموازنة البلاد، فكما نرفض تدخل فرنسا في شؤون بلادنا، أيّاً كانت الوسيلة أو الحجّة، فإننا نرى، بعين الريبة، أي مساس بحرية التّعبير التي ننادي بها، منذ عقود، ونريد أن تكون في إطار منظّم، وضمن عقد اجتماعي هو قيد التحضير، وسوف توزع مسودته في غضون أسابيع. والحديث، هنا، عن مسودة التعديل الشامل للدّستور الذي يحظر المساس بحرية التّعبير، بل يفرض حمايتها ضمن حماية حرية الإنسان وضمان كرامته. ومرفوضة، من ناحية ثالثة، أي أموال خارجية، مشبوهة المصدر، تشوّش السعي إلى فرض حرية التعبير في البلاد. ولكن من دون الحاجة، في كلّ مرّة، إلى رفع تهمة اليد الخارجية على من ديدنُه الانتقاد البناء في إطار السّعي إلى فرض منظومة حوكمة تليق بالجزائر الجديدة، الشّعار الذي ينادي به الرّئيس تبّون، وننادي به جميعاً.
على الرّغم ممّا سبقت الإشارة إليه، هل يمكن التّغاضي عن تعامل السّلطة مع الإعلام، في الجزائر، منذ إقرار الحراك هدنة بسبب الوضع الصّحي وجائحة كورونا، وسعيها، من خلال قوانين جديدة، إلى تكميم الأفواه، بحجّة أن ثمّة أصواتاً ترتفع، لتنال من وحدة البلاد أو رموزها؟
يأتي هذا السّؤال على خلفيّة الجدال الدّائر حول حريّة الإعلام والصّحافة وارتباط ذلك، من ناحية، بالتّمويل الخارجي، وفق تصريح الوزير، أو، من ناحية أخرى، بالإشهار (الإعلان) العمومي والمساعدات، للإبقاء على العناوين من خلال دعم ورق الطباعة، وكلا الأداتين لا علاقة لها بالحرية وتوفيرها للإعلاميين، لأنّ التّمويل الخارجي أو الأيادي الخارجية حُجّة تُرفع كلّما كانت هناك أصوات ترتفع لانتقاد السّلطة ومقاربتها السياسة العامة، على كل الأصعدة، فيما الإشهار العمومي ودعم ورق الطّباعة ليسا منّة من السّلطة، بل هي مقاربة وممارسة ديمقراطية تسمح للصّوت الآخر بالوجود. ذلك أنه حتّى في بعض الفضاءات النيوليبرالية هناك مساعدات للإعلام وللصّحافة، لأنّ تلكما الأداتين إنّما هما فُسحة من روح حرية التعبير التّي هي عماد العقد الاجتماعي بين السّلطة وشعبها، وتُقتطع من ضرائب يدفعها كل الناس، كلّ وفق مصدر دخله، كما يمكن اعتبار حرية التعبير جزءاً من عملية مراقبة سير السياسة العامة وصرف المال العام، وهما عصب الديمقراطية في العالم.
في الحقيقة، تتمتّع الجزائر بدرجة من حرّية التعبير مع وجود خطوط حمر لا يمكن تجاوزها، وهذا منذ انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 1988. ولكن، في العقدين الأخيرين، في عُهدات
وإذا عدنا إلى العام الماضي وانطلاق شرارة الحراك في 22 فبراير/ شباط 2019، فإنّ وسائل الإعلام تجاهلت الحراك في بدايته، ثم حاولت الإضاءة عليه، باعتباره حركية تغيير، وذلك بعد قرار قيادة الأركان بفرض استقالة الرّئيس السّابق لتتغير التغطية، وتغيب، تماماً، وشذّت عن تلك القاعدة صحف معروفة بخطّ تحريري معارض.
وعلى الرّغم من اعتقالات ومحاكمات لوجوه الحراك ومعارضة للانتخابات الرّئاسية داخل الحراك، بسبب غياب شروط الشفافية، بما يكفل اقتراعاً ديمقراطياً، إلّا أنّ الإعلامين، الرّسمي والخاصّ، في أغلبية وسائلهما، امتنعا عن منح الكلمة للمعارضة، بل صمّا آذانهما عن الرّأي الآخر في سلسلة النقاشات بشأن برامج المرشّحين للرّئاسة، كما استمرّا في تغاضيهما عن تغطية حراك الجمعة والثلاثاء إلى غاية الإعلان عن الهدنة الصحية، وتعليق كل المظاهرات بداية مارس/ آذار الماضي.
استمر الأمر حتى صعود الرئيس عبد المجيد تبّون إلى سُدّة الرّئاسة في ديسمبر/ كانون الأول 2019، على الرّغم من ندائه إلى فتح باب الحوار مع الحراك، ومبادرته بإطلاق سراح عشرات المعتقلين، إلّا أن التعامل الإعلامي بالتّجاهل استمرّ. وبعد دخول البلاد الحجر الصحي، مع ظهور جائحة كورونا، تمّ استدعاء ناشطين للتحقيق على مستوى الأمن، كما تم تجديد حبس نشطاء موقوفين احتياطياً، بل إنّ محاكمة السياسي كريم طابو شهدت جدلاً بين النيابة العامة، والمحكمة وطاقم الدفاع عنه، خصوصاً أن المحاكمة وظروفها أدت إلى إصابته بوعكة صحية شديدة أدخلته المستشفى.
إعلامياً، تمّ حجب مواقع تُعدُّ، وفق معايير تعامل السّلطة مع الإعلام، معارِضة وشديدة الانتقاد
بالرّجوع إلى ما تحدثت عنه مقالة سابقة للكاتب، في "العربي الجديد"، عن وجوب انتقاد الحكومة وسياساتها في هذا الظرف الحساس، بما يخدم الصالح الجزائري العام، أي بالانتقاد البناء، فإن ما تقوم به السلطة، حالياً، هو إسكات لكل صوت يرتفع بالانتقاد، سواء جاء عبر الإعلام أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولئن أعطيناها الحق في توقيف من ينشر الهلع والشائعات، وخصوصاً بشأن تفشي الجائحة، إلّا أن ذلك لا يجب أن يعمّ كل الأصوات التي ترتفع لانتقاد النقائص، أيّاً كان نوعها، مما يمكن أن يصحح الأخطاء ويوجه إلى المساعدة في اتخاذ القرارات الصحيحة، خصوصاً أن الإشكالية الكبرى، في الجزائر، هي في معادلة أطرافها ثلاثة، تتمثّل في الحالة المتهالكة للمنظومة الصّحية، من ناحية، وكيفيّة التّوفيق بين قرار الإغلاق، لمنع تفشّي الفيروس، ومساعدة الفئات الهشّة في المجتمع، ممّن ليس لها دخل، وتحتاج إلى الخروج للحصول على بعض المال لتقتات منه، من ناحية أخرى.
تحتاج تلك النقائص إلى عين ساهرة تنقل، إلى السلطة، عبر وسائل الإعلام، وبخاصة الافتراضية منها، أخبارها لتتخذ القرارات بشأنها، وهي مساعدة ثمينة، لا يمكن أن تتوفر من دون أن تأتي في إطار حزمة تتضمن الدعوة إلى حوكمة رشيدة، ديمقراطية في اختيار الأجدر في المكان المناسب، ومراقبة شديدة لمقاربات السياسة العامة، وصرف المال العام الذي أصبح شحيحاً بفعل تهاوي أسعار النفط، وهي المدخول الرئيس لموازنة البلاد، فكما نرفض تدخل فرنسا في شؤون بلادنا، أيّاً كانت الوسيلة أو الحجّة، فإننا نرى، بعين الريبة، أي مساس بحرية التّعبير التي ننادي بها، منذ عقود، ونريد أن تكون في إطار منظّم، وضمن عقد اجتماعي هو قيد التحضير، وسوف توزع مسودته في غضون أسابيع. والحديث، هنا، عن مسودة التعديل الشامل للدّستور الذي يحظر المساس بحرية التّعبير، بل يفرض حمايتها ضمن حماية حرية الإنسان وضمان كرامته. ومرفوضة، من ناحية ثالثة، أي أموال خارجية، مشبوهة المصدر، تشوّش السعي إلى فرض حرية التعبير في البلاد. ولكن من دون الحاجة، في كلّ مرّة، إلى رفع تهمة اليد الخارجية على من ديدنُه الانتقاد البناء في إطار السّعي إلى فرض منظومة حوكمة تليق بالجزائر الجديدة، الشّعار الذي ينادي به الرّئيس تبّون، وننادي به جميعاً.