13 نوفمبر 2024
كورونا والعقد الاجتماعي العربي الجديد
يتساءل ناسٌ كثيرون، في العالم العربي، عمّا بعد جائحة كورونا، شكل المرحلة، مضمونها ومستقبل الجدل الدّائر منذ عقود، ذلك أنّ الوباء جاء فجأة ليعرّي الكلّ بكلّ ما يحملونه من خلافات، إشكاليات، خطابات ومنافحات فكرية وأيديولوجية، والكلّ يعني المجتمع، السّلطة ومحيطهما في الدّاخل والخارج، إلى درجةٍ يمكن الزعم معها أنّ الحياة لن تكون أبداً مثلما كانت، وأنّ المرحلة المقبلة ستشكّل حياة/ واقع ما بعد الجائحة، تماماً كما نتحدّث عما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية، بل وما بعد السوريالية، فالقادم سوريالي إلى أبعد الحدود. ويحتاج المجتمع العربي إلى تفكير عميق بشأن المرحلة المقبلة، لأنّ الرّهان ليس في احتواء الجائحة والخروج منها بأقلّ الأضرار، فقط، بل الانطلاق في رسم معالم المقبل، فالتداعيات ستكون شاملة، وتنسحب على كلّ الميادين.
كيف سيكون حال السّلطة في العالم العربي في ظلّ كورونا، وهل ستنجح في البقاء في دائرة التحكّم والنّفوذ؟ ذلك أن السُّلطة هي الجهة التي ستقع عليها الضّغوط بكلّ أنواعها، مع أزمة الجائحة، لكونها من صمّت آذانها عن التّغيير، عن بناء نموذجي الدّولة والاقتصاد، ولم تقُم بما يُنتظر منها، بوصفها سلطة عمومية، من توفير منظوماتٍ صحة، تربية وكرامة للإنسان في عيشه وحياته.
جاءت الجائحة لتعرّي، كما سبق القول، السّلطة، وتضعها أمام رهان البقاء، لأنّ شرعية الحكم تمرّ عبر الحدود الدنيا لتوفير تلك الخدمات، وهي لن تتمكّن من توفيرها للشّعوب العربية، بل ستفضح الشعوب تقصير السلطة الكبير في بناء تلك المنظومة الصّحية، منشآت وأجهزة، إضافة إلى الكادر البشري، من أطبّاء، ممرّضين ومختصّين صحيّين. وانطلاقاً من هذا، ستجعل غريزة البقاء تلك الشعوب تضطرّ إلى الاعتماد على نفسها، وهو أولى خطوات انفراط عقد السّيطرة من السّلطة على شعوبها، كذلك فإنّها ستزيد من جرعات الاستقلال الذّاتي للشّعوب، وإبراز أنّها
متمكّنة، بل قادرة على مساعدة نفسها، لمواجهة ما تراه من نقائص من يحكمها، وخصوصاً في هذه الظّروف الحرجة والصعبة.
لا يمكن ترك مجال تلك النّقائص من دون الحديث، مرّة أخرى، عن النداءات الداعية إلى الإصلاح والتغيير، التي جرت مواجهتها بالتجاهل أو الاعتقال والصدّ القوي، وهي نداءاتٌ كانت تركّز على وجوب إحراز تغيير في جوانب كثيرة، يمكنها أن تقي الدول العربية شرّ فتراتٍ حرجة، مثل التي نعيشها حالياً. ويكفي أن نعلم أنّ مؤشرات الحرية، التنمية البشرية، تصنيف الجامعات العربية، كثيراً ما كان موضوعاً للنقد وباباً لتوجيه النقد لسياسات الحكومات، ولكن لا حياة لمن تنادي، ليبرز، حقاً، أنّ الشعوب والسّلطة في قطيعة تامّة، وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه السّلطة في المرحلة المقبلة، إذ ستواجه سيلاً من الانتقادات لإدارتها الجائحة بتلك النقائص، إضافة إلى أنها ستجد مجتمعاً مغايراً، استطاع أن يتحمّل الظّروف القاسية، وأن يقوم بما هو من أساسيات عمل السلطة، ما سيؤدّي، كما سبق القول، إلى إرادة الابتعاد عن قبضة الحكومات، وما يستدعي عقداً اجتماعياً، يسجّل ذلك التغيير، ويقرّه قانوناً، بصفة ضرورية.
هناك مجال قد لا تتفطّن له السّلطة، في الوقت الحالي، من وجوب فرض الحجْر الصحي الكامل أو الجزئي، لمنع تفشّي الجائحة، وهو مصير المعوزين ممّن كانت حياتهم صعبة، وستزداد صعوبة، في ظلّ هذه الظروف. وعلى السّلطة أن تواجه سياساتها في القيام بشؤون هذه الفئة الواسعة، وهو ما لا تستطيعه لقلّة الموارد، من ناحية، وبسبب عدم وجود النّصوص والمعرفة الحقيقة لأماكن أعداد أفراد هذه الفئات الهشّة، لتكون هي أولى الصور الدراماتيكية لهذه المرحلة، إلى جانب المصابين، حالة المنشآت الصحية والحاجة إلى الأجهزة، الأطباء، لاحتواء تداعيات الوباء الكبيرة، من ناحية أخرى.
وهناك، في سلسلة تلك النّقائص، مسألة إبعاد الكفاءة عن المناصب الحسّاسة، وتعيين من هم أقلّ معرفة بإدارة ملفات حيوية، بسبب سياساتٍ كثيرة ما تم انتقادها، لأن هذه المرحلة تحتاج، لحساسيتها، إلى كثير من الكفاءة والقدرة على اتخاذ قرارات، وتسيير رشيد ومعقول للموارد، للتوفيق بين صعوبة الظرف وتصريف العناية إلى المناطق، الأفراد والمنشآت، بعقلانية، كما في البلدان الأكثر تقدّماً، التي منحت تلك الكفاءات السلطات الواسعة لإدارة الملف، بكامله، في
حين أنّ أيّ تأخير في رفع ذلك الحرج، في بلداننا العربية، سيكون وخيماً، ولكنه من دروس الجائحة الكبيرة.
تصدّرت لجان إدارة الجائحة في البلدان المتقدّمة الكفاءات العلمية في كل المجالات، بالنظر إلى أن الظرف يحتم ذلك، للخروج بأقل الأضرار من الجائحة، ليكون الدرس أن التسيير بالهاتف، بالواسطة والتعيين العشوائي، بعيداً عن معايير الكفاءة والقدرات التّسييرية، هو الفساد بعينه. ولئن لم يكن ذلك مشهوداً، من خلال آثاره الكبيرة على الحياة، في الظروف العادية، إلّا أنّ الحال غير الحال. وحتى لا نكون سوداويين، يمكن، من الآن، السعي إلى تغيير هذه الأولويات، وتصعيد الكفاءات إلى تلك المناصب، حتى تكون الكارثة أقل وقعاً مما لو تركنا الأمور على ما هي عليه في هذه المرحلة الحرجة.
طبعاً، في هذا الباب، ستحتاج السّلطة إلى تغيير تلك المعايير، وهو ما يستدعي رؤية أخرى شاملة للحوكمة وللعقد الاجتماعي الذي يتحتّم، الآن، التّفكير في مراجعته كاملاً، لتتناسب مضامينه المقبلة مع كل تلك النّقائص، لانّ ذلك مناط بقاء تلك السّلطة، وإلّا فإن التهديدات على الاستقرار ستكون كبيرة، لأن استقلالية المجتمع، بالعمل التطوعي لاحتواء الآثار المدمرة للوباء، ستحتم تلك الرؤية الجديدة للحوكمة ولتلك المراجعة لمضمون العقد الاجتماعي، لإعادة التوازن إلى الحياة برمتها، ومنها، أساساً، الحياة السياسية والسياسة العامة بشكل عام.
تلك هي الورشات الحيوية التي على المفكّرين المسارعة في إبداع مقترحاتهم بشأنها، لأنها ورشاتٌ مستعجلة. وهي، للعلم، مسألةٌ مجتمعية على الكل الاهتمام بها، ولأنها، من ناحية ثانية، مسألةٌ متشعبة، وتمسّ كل المجالات، ذلك أن هذا الوباء صعّد، إلى الأفق، نقائص كنا نراها ماثلة أمام أعيننا، وكثيراً ما تحدّثنا عنها. ولكن الإصغاء، الآن وعاجلاً، أصبح ممكناً، بل وحتمياً، لأنّ المرحلة هي مرحلة التحدّي للبقاء، سلطاتٍ وشعوباً، بل وبلداناً أيضاً، وما هو قادم ليس، بالضرورة، قاتماً، بل تولّد الأزمة الهمّة، وهمّتنا حان وقتها لتولَد منها مقترحات مشاريع، وباب واسع للإصلاح، ومجتمعاتنا تستحقّ منا ذلك، كما تستحقّ منّا أن نقف معها، لنرفع تحدّي البقاء الحقيق أمام الفيروس الوبائي.
على هذا، سيكون العقد الاجتماعي القادم ورشةً مفتوحةً، بل الورشة المحتمة، ذلك أنّ الجائحة عندما ستُرفع، بإذن الله، ستضع، وجهاً لوجه، السّلطة والمجتمع. ولن يكون هناك حراك في
الجزائر، ولا عراك، بل ستكون الظّروف قد حتمت، على الجميع، التصديق على معالم العلاقات القادمة، وإقرارها في القانون الأعلى، الدستور، لأنّ المعركة الوبائية تكون قد أبانت تلك النقائص، وعرّت الكل لمواجهة المصير المحتوم، التغيير والبقاء أو الإصرار على الاستمرار في الاستعصاء.
مؤكّدٌ أن المسألة الاقتصادية ستكون في المقام الأوّل من الأولويات في إدارة أزمة كورونا، وستحتاج السُّلطة والمجتمعات العربية، على حدّ سواء، إلى إبداعٍ كثير، إنْ وجد، للخروج بأقلّ الأضرار من هذه الأزمة. وقد كنّا نتحدّث، منذ وقت طويل، عن الهيكلي من هذه الأزمة، والمتمثل في اتّباع منظومة ريع وفساد لا يمكنهما أن يسمحا بحلول سريعة وجذرية تحدّ وتحتوي القليل من التداعيات عن الاقتصاديات الهشّة، أصلاً، قبل هذه الجائحة.
وبما أنّ السلطة أهملت الاقتصاد بمعاييره المجتمعية وركزت، فقط، على ما يخدم الدائرة المستفيدة مع هامش للفئات المهمّشة لشراء السلم الاجتماعي، فإنها ستخرج منهكة من هذه الجائحة، وستكون مضطرّة إلى التفكير، ملياً، في مراجعة كل قواعد التسيير، الاستثمار والحوكمة للقطاعات المنتجة، بما يعيد للاقتصاد المجتمعي توازنه، بل ستكون السلطة مضطرة إلى إبعاد الفساد وتجريمه والرفع من قيمة الكفاءة والإبداع، لأنهما سيكونان الباب الذي سيأتي منه مخرج للأزمة، وتعيد له شرعيته، شرعية الحكم بالرضا، وليس بالإملاء وبالإقصاء، كما جرت العادة.
إذا كان الاقتصاد، في الوقت العادي، ريعياً، ويعتمد على التحالفات الداخلية الدولية ليستمد قوته، فإن تلك القوة ستكون على المحكّ مع شمولية الأزمة الاقتصادية عالمياً، كما أن الموارد التي كانت تأتي من الخارج، لتشد من عضد السلطة ستكون شحيحة، إلى أبعد الحدود، بل إن خريطة التحالفات والاتفاقيات الدولية ستكون موضوعاً لتغيير عميق قد تكون الفرصة فيه،
مواتية، لمراجعة الاتفاقيات الفاشلة التي رهنت الاقتصاديات على غرار اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي عقدتها دول المغرب العربي، والتي ستصبح أثراً بعد عين، خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي، نفسه، سيكون جاهزاً لخروج أكثر من عضو (إيطاليا، مثلاً، بداية) جرّاء تسيير أكبر عضوين (ألمانيا وفرنسا) الأناني جائحة كورونا.
لا يفوت التّذكير هنا بوجوب بناء نماذج اقتصادية إنتاجية، وإلغاء الاعتماد على منظومة الريع المتهاوية، جرّاء تضافر الجائحة وتباطؤ الاقتصاد العالمي، بل دخوله في حالة انكماش طويلة الأمد، ما يعني أنّ المورد الأساسي، بل الوحيد، أحياناً، الذي كان يوفّر الغطاء للمنظومة الرّيعية ولشراء التّحالفات والسّلم الاجتماعي (لدول كثيرة) تهاوت وفتحت الباب، على مصراعيه، لفرصةٍ تاريخيةٍ لا تعوّض لوضع الحجر الأساس لذلك الاقتصاد المنتج المجتمعي، بمعايير الكفاءة والإدارة بمعطيات الجودة والجدوى.
من جرّاء ذلك، هل يكون الاقتصاد مدخلاً للإصلاح، بعد ثبوت فشل الرّهانات القديمة على ثنائية الفساد والرّيع؟ هل سيكون للجائحة فضل قي تبنّي نماذج لحوكمة اقتصادية جديدة عقلانية ورشيدة؟ قد تكون الإجابة، عن السؤالين، صعبةً، لغياب مؤشّرات كافية، لكنّ المشهد مهيأ للتدليل على مستقبل الاقتصاد في العالم العربي. ولكن يمكن القول، من الآن، إنّ الأمور تتّجه إلى التغيير، وحتما ستؤدّي إلى خياراتٍ جديدةٍ مجتمعيةٍ، مغايرةٍ لما كان عليه الأمر قبل الوباء، وهو ما يستدعي، حقّاً، أيضاً، التفكير في شكل المجتمع المدني الذي سيضطرّ إلى التعامل مع تداعيات الجائحة على كل من السلطة والاقتصاد في العالم العربي.
هناك ثلاث حقائق، كخاطرة أولية، على المجتمع استيعابها، لأنّها سترسم معالم المنافحة مع السلطة، في العالم العربي، لعلّ أولها، على الإطلاق، يتصل بإمكانية تغوّل السّلطة، بسبب أنها تنال، بسبب الجائحة، فرصة التحكّم الكامل على المكان، فضاء الحراك والتظاهر، إضافة إلى امتلاكها لظروف مخففة لإعلان حالة الطوارئ، حظر التجوال ومراقبة حركة الناس، وهي - كإجراءات صحية - لا يمكن انتقادها، لأنها لأوّل مرّة في العالم العربي ستُعلن لمصلحة الناس
ولخدمة صحتهم، بيد أن التجربة بينت أن ثمّة دولاً عربية تتعامل مع هذه الإجراءات على أنّها على الدّوام، ولا يمكن استعادة الفضاء الحراكي، كما لا يمكن استرجاع الحريات المقيدة بعنوان الطّوارئ الصحية.
وهناك حقيقة ثانية متعلقة بتحكم السّلطة بالمعلومات الخاصة بالوباء، وهو تحكّم له ما بعده، ذلك أنّ الظّرف يستدعي التعامل بمصدر واحد حتى نتجنّب التهويل، ولا نسقط في التهوين من شأن الجائحة. ولكن، في عالمنا العربي، التحكّم في المعلومة وتدفّقها أحد أوجه منع الانتقاد، الحديث عن النقائص والتعرّض لخيارات مواجهة الوباء وتداعياته على المجالات كافة، وقوانين الإعلام تشهد على ذلك في الأوقات العادية، فكيف بالظرف الاستثنائي جرّاء تفشّي وباء كورونا.
تشير الحقيقة الثالثة إلى شكل الحريات ومضمونها في ظل الحالة الوبائية، وكيف ستكون بعد العودة إلى الحالة العادية في أشهر مقبلة، خصوصاً أن المستوى الذي وصلت إليه تلك الحريات، في بعض البلدان، جاء بشقّ الأنفس، ولم يصل إلى ما يرتجيه العرب، لتأتي هذه الجائحة بما لم نكن ننتظره.
على هذا، كيف ستكون استراتيجية العرب في مواجهة هذه الحقائق/ التّهديدات على فضاء الحريات، بما تتضمنه، يمكن أن تكون على المحكّ إذا لم يفكر المجتمع، من الآن، في حال الحجر المنزلي الإجباري، بسبب الوباء، في حلولٍ لمواجهة تلك المشاهد، خصوصاً أنها ستترافق مع انحسارٍ في تحكم السلطة بالوضع، كذلك ستشهد تباطؤاً في النمو، بل أزمة
اقتصادية خانقة، ستكون، في الجزائر، بمثابة ضغوط قد تكون تداعياتها محفّزة على الابتكار في شكل الحراك المستقبلي ومضمونه، حراك منظم يقفز على تلك السلبيات، ويجعل منها فرصاً حقيقية لتجسيد الغد المنشود لتلك الحريات؟
ترتكز تلك الاستراتيجية، كما اقترح الكاتب في مقال سابق في "العربي الجديد"، قبل تفشّي الوباء، بالمسارعة إلى التفكير في الانتظام في شكل جمعيات وأحزاب، ذلك أن السلطة والمجتمع سيكونان، وجهاً لوجه، مع ظروفٍ صعبة، على المستويات كافة، بعد انحسار الجائحة، ستحتّم التحرك المجتمعي في إطار توافق لاحتواء تداعيات كورونا، والحفاظ على شكل تنظيمي، لتسيير الحياة، يشارك في التحكّم فيه الجميع، حتى لا تؤدّي تلك التداعيات إلى انطلاق موجة جديدة من عدم الاستقرار، تكون السيادة الوطنية هي الرهان، لأن الجيران الإقليميين، والقوى الكبرى مدعوّة، هي أيضاً، إلى المشاهد نفسها من الأزمات، نعرف أنّها ستتحين أية فرصة لتعميق أزماتنا وتحقيق مصالحهم.
تلكم هي الأولويات التي على أساسها ستتعامل السُّلطة والمجتمع مع ما بعد الجائحة. وعلى الكل التجنّد لمشهد صعب وحساس، سيحتاج إلى التوافق لإنجاز الخروج الآمن من مدلهمّات المرحلة المقبلة وتداعيات الوباء. ربما، للمفارقة، يؤدي الوباء إلى تجسيد اللحمة المجتمعية وبناء الدولة والاقتصاد والخروج، إلى الأبد، من عنق الزجاجة إلى الفضاء الرحب من الإبداع والابتكار، وفي مصلحة العالم العربي.
جاءت الجائحة لتعرّي، كما سبق القول، السّلطة، وتضعها أمام رهان البقاء، لأنّ شرعية الحكم تمرّ عبر الحدود الدنيا لتوفير تلك الخدمات، وهي لن تتمكّن من توفيرها للشّعوب العربية، بل ستفضح الشعوب تقصير السلطة الكبير في بناء تلك المنظومة الصّحية، منشآت وأجهزة، إضافة إلى الكادر البشري، من أطبّاء، ممرّضين ومختصّين صحيّين. وانطلاقاً من هذا، ستجعل غريزة البقاء تلك الشعوب تضطرّ إلى الاعتماد على نفسها، وهو أولى خطوات انفراط عقد السّيطرة من السّلطة على شعوبها، كذلك فإنّها ستزيد من جرعات الاستقلال الذّاتي للشّعوب، وإبراز أنّها
لا يمكن ترك مجال تلك النّقائص من دون الحديث، مرّة أخرى، عن النداءات الداعية إلى الإصلاح والتغيير، التي جرت مواجهتها بالتجاهل أو الاعتقال والصدّ القوي، وهي نداءاتٌ كانت تركّز على وجوب إحراز تغيير في جوانب كثيرة، يمكنها أن تقي الدول العربية شرّ فتراتٍ حرجة، مثل التي نعيشها حالياً. ويكفي أن نعلم أنّ مؤشرات الحرية، التنمية البشرية، تصنيف الجامعات العربية، كثيراً ما كان موضوعاً للنقد وباباً لتوجيه النقد لسياسات الحكومات، ولكن لا حياة لمن تنادي، ليبرز، حقاً، أنّ الشعوب والسّلطة في قطيعة تامّة، وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه السّلطة في المرحلة المقبلة، إذ ستواجه سيلاً من الانتقادات لإدارتها الجائحة بتلك النقائص، إضافة إلى أنها ستجد مجتمعاً مغايراً، استطاع أن يتحمّل الظّروف القاسية، وأن يقوم بما هو من أساسيات عمل السلطة، ما سيؤدّي، كما سبق القول، إلى إرادة الابتعاد عن قبضة الحكومات، وما يستدعي عقداً اجتماعياً، يسجّل ذلك التغيير، ويقرّه قانوناً، بصفة ضرورية.
هناك مجال قد لا تتفطّن له السّلطة، في الوقت الحالي، من وجوب فرض الحجْر الصحي الكامل أو الجزئي، لمنع تفشّي الجائحة، وهو مصير المعوزين ممّن كانت حياتهم صعبة، وستزداد صعوبة، في ظلّ هذه الظروف. وعلى السّلطة أن تواجه سياساتها في القيام بشؤون هذه الفئة الواسعة، وهو ما لا تستطيعه لقلّة الموارد، من ناحية، وبسبب عدم وجود النّصوص والمعرفة الحقيقة لأماكن أعداد أفراد هذه الفئات الهشّة، لتكون هي أولى الصور الدراماتيكية لهذه المرحلة، إلى جانب المصابين، حالة المنشآت الصحية والحاجة إلى الأجهزة، الأطباء، لاحتواء تداعيات الوباء الكبيرة، من ناحية أخرى.
وهناك، في سلسلة تلك النّقائص، مسألة إبعاد الكفاءة عن المناصب الحسّاسة، وتعيين من هم أقلّ معرفة بإدارة ملفات حيوية، بسبب سياساتٍ كثيرة ما تم انتقادها، لأن هذه المرحلة تحتاج، لحساسيتها، إلى كثير من الكفاءة والقدرة على اتخاذ قرارات، وتسيير رشيد ومعقول للموارد، للتوفيق بين صعوبة الظرف وتصريف العناية إلى المناطق، الأفراد والمنشآت، بعقلانية، كما في البلدان الأكثر تقدّماً، التي منحت تلك الكفاءات السلطات الواسعة لإدارة الملف، بكامله، في
تصدّرت لجان إدارة الجائحة في البلدان المتقدّمة الكفاءات العلمية في كل المجالات، بالنظر إلى أن الظرف يحتم ذلك، للخروج بأقل الأضرار من الجائحة، ليكون الدرس أن التسيير بالهاتف، بالواسطة والتعيين العشوائي، بعيداً عن معايير الكفاءة والقدرات التّسييرية، هو الفساد بعينه. ولئن لم يكن ذلك مشهوداً، من خلال آثاره الكبيرة على الحياة، في الظروف العادية، إلّا أنّ الحال غير الحال. وحتى لا نكون سوداويين، يمكن، من الآن، السعي إلى تغيير هذه الأولويات، وتصعيد الكفاءات إلى تلك المناصب، حتى تكون الكارثة أقل وقعاً مما لو تركنا الأمور على ما هي عليه في هذه المرحلة الحرجة.
طبعاً، في هذا الباب، ستحتاج السّلطة إلى تغيير تلك المعايير، وهو ما يستدعي رؤية أخرى شاملة للحوكمة وللعقد الاجتماعي الذي يتحتّم، الآن، التّفكير في مراجعته كاملاً، لتتناسب مضامينه المقبلة مع كل تلك النّقائص، لانّ ذلك مناط بقاء تلك السّلطة، وإلّا فإن التهديدات على الاستقرار ستكون كبيرة، لأن استقلالية المجتمع، بالعمل التطوعي لاحتواء الآثار المدمرة للوباء، ستحتم تلك الرؤية الجديدة للحوكمة ولتلك المراجعة لمضمون العقد الاجتماعي، لإعادة التوازن إلى الحياة برمتها، ومنها، أساساً، الحياة السياسية والسياسة العامة بشكل عام.
تلك هي الورشات الحيوية التي على المفكّرين المسارعة في إبداع مقترحاتهم بشأنها، لأنها ورشاتٌ مستعجلة. وهي، للعلم، مسألةٌ مجتمعية على الكل الاهتمام بها، ولأنها، من ناحية ثانية، مسألةٌ متشعبة، وتمسّ كل المجالات، ذلك أن هذا الوباء صعّد، إلى الأفق، نقائص كنا نراها ماثلة أمام أعيننا، وكثيراً ما تحدّثنا عنها. ولكن الإصغاء، الآن وعاجلاً، أصبح ممكناً، بل وحتمياً، لأنّ المرحلة هي مرحلة التحدّي للبقاء، سلطاتٍ وشعوباً، بل وبلداناً أيضاً، وما هو قادم ليس، بالضرورة، قاتماً، بل تولّد الأزمة الهمّة، وهمّتنا حان وقتها لتولَد منها مقترحات مشاريع، وباب واسع للإصلاح، ومجتمعاتنا تستحقّ منا ذلك، كما تستحقّ منّا أن نقف معها، لنرفع تحدّي البقاء الحقيق أمام الفيروس الوبائي.
على هذا، سيكون العقد الاجتماعي القادم ورشةً مفتوحةً، بل الورشة المحتمة، ذلك أنّ الجائحة عندما ستُرفع، بإذن الله، ستضع، وجهاً لوجه، السّلطة والمجتمع. ولن يكون هناك حراك في
مؤكّدٌ أن المسألة الاقتصادية ستكون في المقام الأوّل من الأولويات في إدارة أزمة كورونا، وستحتاج السُّلطة والمجتمعات العربية، على حدّ سواء، إلى إبداعٍ كثير، إنْ وجد، للخروج بأقلّ الأضرار من هذه الأزمة. وقد كنّا نتحدّث، منذ وقت طويل، عن الهيكلي من هذه الأزمة، والمتمثل في اتّباع منظومة ريع وفساد لا يمكنهما أن يسمحا بحلول سريعة وجذرية تحدّ وتحتوي القليل من التداعيات عن الاقتصاديات الهشّة، أصلاً، قبل هذه الجائحة.
وبما أنّ السلطة أهملت الاقتصاد بمعاييره المجتمعية وركزت، فقط، على ما يخدم الدائرة المستفيدة مع هامش للفئات المهمّشة لشراء السلم الاجتماعي، فإنها ستخرج منهكة من هذه الجائحة، وستكون مضطرّة إلى التفكير، ملياً، في مراجعة كل قواعد التسيير، الاستثمار والحوكمة للقطاعات المنتجة، بما يعيد للاقتصاد المجتمعي توازنه، بل ستكون السلطة مضطرة إلى إبعاد الفساد وتجريمه والرفع من قيمة الكفاءة والإبداع، لأنهما سيكونان الباب الذي سيأتي منه مخرج للأزمة، وتعيد له شرعيته، شرعية الحكم بالرضا، وليس بالإملاء وبالإقصاء، كما جرت العادة.
إذا كان الاقتصاد، في الوقت العادي، ريعياً، ويعتمد على التحالفات الداخلية الدولية ليستمد قوته، فإن تلك القوة ستكون على المحكّ مع شمولية الأزمة الاقتصادية عالمياً، كما أن الموارد التي كانت تأتي من الخارج، لتشد من عضد السلطة ستكون شحيحة، إلى أبعد الحدود، بل إن خريطة التحالفات والاتفاقيات الدولية ستكون موضوعاً لتغيير عميق قد تكون الفرصة فيه،
لا يفوت التّذكير هنا بوجوب بناء نماذج اقتصادية إنتاجية، وإلغاء الاعتماد على منظومة الريع المتهاوية، جرّاء تضافر الجائحة وتباطؤ الاقتصاد العالمي، بل دخوله في حالة انكماش طويلة الأمد، ما يعني أنّ المورد الأساسي، بل الوحيد، أحياناً، الذي كان يوفّر الغطاء للمنظومة الرّيعية ولشراء التّحالفات والسّلم الاجتماعي (لدول كثيرة) تهاوت وفتحت الباب، على مصراعيه، لفرصةٍ تاريخيةٍ لا تعوّض لوضع الحجر الأساس لذلك الاقتصاد المنتج المجتمعي، بمعايير الكفاءة والإدارة بمعطيات الجودة والجدوى.
من جرّاء ذلك، هل يكون الاقتصاد مدخلاً للإصلاح، بعد ثبوت فشل الرّهانات القديمة على ثنائية الفساد والرّيع؟ هل سيكون للجائحة فضل قي تبنّي نماذج لحوكمة اقتصادية جديدة عقلانية ورشيدة؟ قد تكون الإجابة، عن السؤالين، صعبةً، لغياب مؤشّرات كافية، لكنّ المشهد مهيأ للتدليل على مستقبل الاقتصاد في العالم العربي. ولكن يمكن القول، من الآن، إنّ الأمور تتّجه إلى التغيير، وحتما ستؤدّي إلى خياراتٍ جديدةٍ مجتمعيةٍ، مغايرةٍ لما كان عليه الأمر قبل الوباء، وهو ما يستدعي، حقّاً، أيضاً، التفكير في شكل المجتمع المدني الذي سيضطرّ إلى التعامل مع تداعيات الجائحة على كل من السلطة والاقتصاد في العالم العربي.
هناك ثلاث حقائق، كخاطرة أولية، على المجتمع استيعابها، لأنّها سترسم معالم المنافحة مع السلطة، في العالم العربي، لعلّ أولها، على الإطلاق، يتصل بإمكانية تغوّل السّلطة، بسبب أنها تنال، بسبب الجائحة، فرصة التحكّم الكامل على المكان، فضاء الحراك والتظاهر، إضافة إلى امتلاكها لظروف مخففة لإعلان حالة الطوارئ، حظر التجوال ومراقبة حركة الناس، وهي - كإجراءات صحية - لا يمكن انتقادها، لأنها لأوّل مرّة في العالم العربي ستُعلن لمصلحة الناس
وهناك حقيقة ثانية متعلقة بتحكم السّلطة بالمعلومات الخاصة بالوباء، وهو تحكّم له ما بعده، ذلك أنّ الظّرف يستدعي التعامل بمصدر واحد حتى نتجنّب التهويل، ولا نسقط في التهوين من شأن الجائحة. ولكن، في عالمنا العربي، التحكّم في المعلومة وتدفّقها أحد أوجه منع الانتقاد، الحديث عن النقائص والتعرّض لخيارات مواجهة الوباء وتداعياته على المجالات كافة، وقوانين الإعلام تشهد على ذلك في الأوقات العادية، فكيف بالظرف الاستثنائي جرّاء تفشّي وباء كورونا.
تشير الحقيقة الثالثة إلى شكل الحريات ومضمونها في ظل الحالة الوبائية، وكيف ستكون بعد العودة إلى الحالة العادية في أشهر مقبلة، خصوصاً أن المستوى الذي وصلت إليه تلك الحريات، في بعض البلدان، جاء بشقّ الأنفس، ولم يصل إلى ما يرتجيه العرب، لتأتي هذه الجائحة بما لم نكن ننتظره.
على هذا، كيف ستكون استراتيجية العرب في مواجهة هذه الحقائق/ التّهديدات على فضاء الحريات، بما تتضمنه، يمكن أن تكون على المحكّ إذا لم يفكر المجتمع، من الآن، في حال الحجر المنزلي الإجباري، بسبب الوباء، في حلولٍ لمواجهة تلك المشاهد، خصوصاً أنها ستترافق مع انحسارٍ في تحكم السلطة بالوضع، كذلك ستشهد تباطؤاً في النمو، بل أزمة
ترتكز تلك الاستراتيجية، كما اقترح الكاتب في مقال سابق في "العربي الجديد"، قبل تفشّي الوباء، بالمسارعة إلى التفكير في الانتظام في شكل جمعيات وأحزاب، ذلك أن السلطة والمجتمع سيكونان، وجهاً لوجه، مع ظروفٍ صعبة، على المستويات كافة، بعد انحسار الجائحة، ستحتّم التحرك المجتمعي في إطار توافق لاحتواء تداعيات كورونا، والحفاظ على شكل تنظيمي، لتسيير الحياة، يشارك في التحكّم فيه الجميع، حتى لا تؤدّي تلك التداعيات إلى انطلاق موجة جديدة من عدم الاستقرار، تكون السيادة الوطنية هي الرهان، لأن الجيران الإقليميين، والقوى الكبرى مدعوّة، هي أيضاً، إلى المشاهد نفسها من الأزمات، نعرف أنّها ستتحين أية فرصة لتعميق أزماتنا وتحقيق مصالحهم.
تلكم هي الأولويات التي على أساسها ستتعامل السُّلطة والمجتمع مع ما بعد الجائحة. وعلى الكل التجنّد لمشهد صعب وحساس، سيحتاج إلى التوافق لإنجاز الخروج الآمن من مدلهمّات المرحلة المقبلة وتداعيات الوباء. ربما، للمفارقة، يؤدي الوباء إلى تجسيد اللحمة المجتمعية وبناء الدولة والاقتصاد والخروج، إلى الأبد، من عنق الزجاجة إلى الفضاء الرحب من الإبداع والابتكار، وفي مصلحة العالم العربي.