الانتخابات التونسية بين التأثير والإفساد

24 مايو 2019
+ الخط -
ربما تكون الانتخابات التونسية المقبلة (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) المشهد الأكثر إثارة، منذ الثورة التونسية وانطلاق مسار الانتقال الديمقراطي، فإذا كانت انتخابات العام 2011 واضحة المعالم والأهداف، ويسهل تحديد الأطراف السياسية المتنافسة التي كانت، في مجملها، من القوى السياسية، المعارضة سابقا للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولم تكن نتائجها من قبيل اللامتوقع، وإذا كانت انتخابات 2011 هي انتخابات الثورة بامتياز، فيمكن القول ببعض الاختزال إن انتخابات 2014 هي انتخابات الثورة المضادة بوضوح، حيث تشظّت القوى التي كنت تتشكل منها "الترويكا"، وفشلت أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية (حراك تونس حاليا) والتكتل من أجل العمل والحريات في تحقيق أي نتائج تذكر، تراجعت حركة النهضة إلى المركز الثاني. وفي المقابل، تقدّم حزب نداء تونس، والذي ضم حينها كل المتضرّرين من الثورة والغاضبين على حكم "الترويكا"، ليسيطر على الرئاسات الثلاث. والحقيقة أن "نداء تونس" استفاد وقتها من وضع إقليمي ملائم، مع دخول الربيع العربي في حالة جزْر مؤقت، بعد الانقلاب المصري وانزياح ليبيا إلى حرب أهلية واندفاع إماراتي سعودي لتصفية الثورات العربية ومحاولة إفشالها بأي ثمن.
لم تكن مخرجات انتخابات 2014 انتصارا ساحقا للثورة المضادّة، بقدر ما كانت مدخلا لتشكل مشهد جديد، سُمي في تونس "التوافق الوطني"، في ظل تحالف "النهضة" مع "نداء تونس"، وهو أمر أشبه بحكومة تعايش، فرضتها المرحلة من أجل إدارة البلاد في غياب قوة حزبية حاسمة، وبداية تشظّي "نداء تونس" وتحوله إلى مجموعة أجنحة متصارعة، سرعان ما تحولت إلى أحزاب متعدّدة، من دون مرجعية ولا محدّدات ولا ثوابت فكرية أو هوية حزبية.
ربما كانت الفوضى الحزبية التي خلفها انفجار حزب نداء تونس، ومحاولات رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، تخليق قوة سياسية جديدة، مستفيدا من موقعه في السلطة، أفضت إلى 
تفاقم المشهد السياسي من ناحيتين، أولهما ظهور أطرافٍ مختلفةٍ تحاول القفز على السلطة بتوظيف المال السياسي، وهي في غالبها قادمة من خارج التركيبة الحزبية، بل وبعضها لا يُعرف له تاريخ سياسي يُذكر، فقد ظهرت جمعياتٌ ترفع شعارات العمل الخيري والاجتماعي، لتتحول بسرعةٍ لافتةٍ إلى أدوات للحشد السياسي، والدعاية لشخصياتٍ معينةٍ، بشكل يثير الريبة، خصوصا وأن الفصل الرابع من قانون الجمعيات التونسي يحظر على مثل هذه الهيئات الاشتغال بالشأن السياسي، أو تسخير مواردها للعمل الحزبي، غير أن ما جرى على أرض الواقع من تسخير هذه الجمعيات لأهداف سلطوية مكشوفة، واستفادتها من تمويلاتٍ ماليةٍ ضخمة، مجهولة المصدر، يهدّد بإفساد المشهد السياسي التونسي، وإفقاد العملية الانتخابية القادمة الكثير من شفافيتها، حيث ستلعب سلطة المال دورا في محاولة توجيه الرأي العام. من ناحية أخرى، فإن ما كشفت عنه شركة "فيسبوك" من محاولات مجموعة "أرخميدس" الصهيونية استهداف مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، من ضمن دول أخرى، يؤكد وجود رغبةٍ قويةٍ لدى دول معينة، للتأثير في المشهد الانتخابي التونسي، وربما السعي إلى إفساده بأي شكل.
ولا تخفى عن المتابعين حالة الشراكة القائمة بين شركات صهيونية ومراكز صنع القرار في 
دولة الإمارات، وهو ما يرجّح إمكانية توظيف الثانية للأولى، لتحقيق هدفين، أحدهما إبطاء مسار الانتقال الديمقراطي التونسي قدر الإمكان، إذا لم يكن ممكنا إفشاله عبر بث دعايات كاذبة، وتهديد السلم الأهلي، من خلال الدفع نحو حالة من الصراع السياسي المتشنج، والثاني دعم بعض الأحزاب التونسية المحلية، وهو أمرٌ تجلى في حضور سفير الإمارات في تونس، في اجتماع لأحد الأحزاب الاستئصالية المعادية للثورة، بما يعني تبعية هذا الحزب للطرف الإماراتي، وانخراطه ضمن شبكة من الكيانات الحزبية والجمعياتية التي تنفذ أجندات محور الثورات المضادة الذي تتزّعمه الإمارات.
ستكون الانتخابات التونسية المقبلة حاسمة، لا من حيث نتائجها فحسب، ولكن من حيث أن إنجازها يشكل حلقة جديدة في استكمال المسار الديمقراطي التونسي، ودفعة قوية للربيع العربي الذي استعاد أنفاسه أخيرا، من خلال الحراك الشعبي في الجزائر والسودان، وفشل خليفة حفتر في تحقيق أي إنجاز عسكري في ليبيا، ما يعني أن المنجز الديمقراطي التونسي سيتواصل، على الرغم من محاولات الإفساد، وأن التأثير المأمول من خلال ضخ المال الفاسد قد لا يفضي إلا إلى نقيض الغاية منه، أي إلى فشل أصحابه وخسارة مموليهم.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.