المثقف بين الحرية والاستبداد

22 مايو 2019
+ الخط -
من الصعب تعريف المثقف بكلمة أو عبارة، فحاله أوسع من اختزالها في إطار محدّد. فالمبدعون في حقول الفكر والأدب والفن مثقفون، والمهنيون المؤهلون في الطب والهندسة والعلوم الأخرى، المتعدّدة فروعها، هم أيضاً في عداد المثقفين..! لكنَّ المثقف المقصود بهذه المقالة هو الذي يتمتع بوعي خاص مطابق لحقيقة واقعه، ويمتلك رأياً حرّاً مستنداً إليه، وله تأثيره بما يمكن أن يحدثه من تغيير يرجوه شعبه في قضاياه الكبرى والمفصلية. هذا النوع من المثقف غالباً ما تتابعه عين الحاكم المستبد، وعيونه الراصدة توفيراً لأمن كرسيه في مناحي البلاد، وشؤونها كافة. وللإعلام الذي تلعب أجهزته، في وقتنا الراهن، دور رئيس في هذا المجال يكرِّسه لوجوده وديمومته، إذ يبرز في تعظيمه وإبراز إنجازاته (إن كان في الحقيقة ثمة إنجاز..) ومنّته على شعبه. ومن هنا يصعب أن يجد القارئ أو الكاتب وسيلة إعلامية أو ثقافية في البلاد التي تحكمها أنظمة شمولية (تحت راية حزب أو أسرة أو سوى ذلك) أن تكون مستقلة. وسيَّان، ملكتها الدولة مباشرة أو ملكها أفراد مستقلون. 
لا تزال بلادنا العربية، كما كانت عبر تاريخها الطويل، بعيدة عن استيعاب مثل هذا المثقف، ناهيك بإفساح المجال له لقول كلمته صراحة، أو للإدلاء برأيه المبني على وقائع محدّدة، فهذه 
الأوطان تنتمي، في تركيبة بنائها الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي السياسي، إلى نظم شمولية تمثل تشكيلات اقتصادية رعوية/ إقطاعية، أو ما يشبهها. ولا يغيِّر من الأمر شيء ظهور شرائح برجوازية طفيلية أو (كومبرادورية)، فهذه تأتي في السياق نفسه، وتغزل على منواله.
ولسنا بحاجة للعودة إلى التاريخ، لاستعارة الشواهد، فقد طاولت يد الحاكم قديماً، أيّ حاكم، رجال الفكر والأدب، ولم تستثن فقهاء الدين، سجناً وتعذيباً، فكم سيق من هؤلاء إلى الموت قهراً أو قتلاً وحشياً مباشراً. وسواء كان المثقف مفكراً عاماً يتمسّك برأيه المستقل، أم ممن يقعون ضحايا مكائد بعضهم. ولعل أحدث شاهدين على ما تذهب إليه هذه السطور، من حاضرنا، الصحافي جمال خاشقجي الذي قتل بوحشية، وحرّكت قضيته العالم كله، ولكن من دون أن يمس القتلة بوردة، وجريمته كلها أنه قال عبارة مسّت الحاكم. ومثل خاشقجي تماماً، لكن من دون قتل، ما جرى للفنان المسرحي اللبناني زياد عيتاني، الذي اقتادته عصابة مجهولة زاعمة أنَّها الدولة، والحقيقة هي كذلك، لرأي قاله في حق وزير كان يمكنه أن يحرِّك دعوى ضده، وأن يقاضيه وفق القانون، خصوصا في بلد عربي يزعم أنه أكثر بلد عربي فيه ديمقراطية.
ومما هو لافت حقاً في تجربة الثورة السورية اليوم أن ترى قوى سياسية تزعم أنها ثورية، وتسعى، في الوقت نفسه، إلى أن تتقاسم، هي والنظام الذي تثور عليه لاستبداده، رأس هرم التشكيلات العشائرية السورية، ناهيكم بالمؤتمرات التي تعقد على أسس طائفية. يحدث ذلك، في وقتٍ ترى فيه المثقف يعاني الأمَرين لدى الطرفين، فإما هو سجين أو محاصر لدى النظام، أو هو عند المعارضة مهمل، لا أحد يكتال بكيله، فأية ثقافة هذه، وأي مثقفٍ يمكن له أن يولِّد أفكاراً يمكن لها أن ترتقي على أي صعيد كان، ضمن هذه الأوساط الموبوءة؟
يعيش العالم اليوم عصر الديمقراطية التي غدت في معظم بلدانه خبز مواطنه اليومي، وخيط الضوء الذي يقوده إلى حيث الأمن والسلام والنمو المضطرد.. ونحن، العرب، الذين لا نزال نتشوَّف على العالم بحضارتنا، وبماضينا التليد، أبعد ما نكون عنها. وقد يقول قائل إنَّ الديمقراطية لا تهلّ على الشعوب من علٍ، أو من مكانٍ ما خفيٍّ، بل هي نتيجة للتطور الموضوعي لقوى الإنتاج الاقتصادي، ولوجود المؤسسات الاقتصادية التي تسيّرها إداراتٌ خبيرةٌ تعمل على نحو جماعي، وتتنافس بحريةٍ مع ما يماثلها. أقول إن هذا صحيح، ولكن المسألة في جوهرها مترابطة/ متفاعلة في ما بينها، بل إن ما بين التنمية والديمقراطية علاقة جدلية يكمّل أحدهما الآخر. ثم ما الذي ينقص العرب ليكونوا من أكثر بلدان العالم نمواً وتطوراً، وعلى أسس معاصرة؟ فلا المال ينقصهم، ولا الخبرات ولا الخريجون في الاختصاصات العلمية كافة، ولديهم من الثروات الباطنية ما يكفي للقيام بنهضة إنتاجية، تقوم وفق أسس تكنولوجية رفيعة، وعلى غير صعيد. في الحقيقة، لا ينقص العرب غير الديمقراطية التي تفسح في المجال لشعوبهم أن تقول كلمتها بحق هذه الأنظمة المستبدّة التي تجرُّ عليها الهزيمة تلو الأخرى، وتتركها للهوان والعدوان. وأن تطلق يد العاملين في الحقول الثقافية كافة، ليصبح الالتفات إلى البحث العلمي أساس النهوض والارتقاء.
بنظرة منك على حال بعض المثقفين العرب، تجدهم "بروليتاريا" أو ما يشبهها، إذ هم، بتعبير 
كارل ماركس، مضطرون لبيع قوة عملهم ليعيشوا، وهم يعانون الكثير، إذ يوضعون في بازار العرض والطلب. وربما هم الأكثر رهافةً من غيرهم، وبالتالي الأكثر معاناة إذا ما تعرَّضوا لنوع من الإذلال، تحت وطأة الحاجة، ما يقود بعضهم إلى مساومةٍ ما تقوده، في النهاية، إلى تنازلٍ عن رأي أو رؤية أو فكرة ما، فتكون النتيجة تخريباً من الداخل، وبالتالي شلّاً لطاقته الفكرية، وقتلاً لروحه الإبداعية..! وهذا بالضبط ما يسعى إليه الاستبداد الذي لا يمكن أن يعيش في مكانٍ فيه أناسٌ تفكِّر، بل تجاهر بتفكيرها.
أكثر ما تحتاجه بلداننا اليوم هو الديمقراطية بمعناها الواسع، وبوابتها الرئيسة الديمقراطية السياسية التي تسمح بتداول السلطة، فتنزع، عبر الإعلام الحر، غطاء الفساد، وتفسح في المجال للمثقف ليقول رأيه ويقوم بدوره التنويريّ. وإذا كان أمر المثقف طبيعياً في ظل الأنظمة الاستبدادية فهو مستهجن ومرفوض بالمعايير كلها، حين يعيش الحال نفسها، وهو يناهض الاستبداد واقفاً إلى جانب القوى الثورية الساعية، كما تعلن، إلى تحطيم نير الاستبداد الذي يعيق حركة المجتمع، بل حركة الحياة ذاتها. الحياة التي لا تعرف الوقوف، لكن محاولات إيقافها تخلق المآسي لبني البشر. ويبقى السؤال الأهم أمام القوى التي تغيِّب الديمقراطية خلف الشعارات الوطنية والتقدمية، وتدَّعي العلمانية: لماذا تتقدّم الدول التي تأخذ بالنظم الديمقراطية، وتتخلف الأخرى المستبدة، فيغدو الظلم ظلمين؟
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية