23 أكتوبر 2024
عن التجنيد في المغرب.. الداخل والخارج
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
صادق البرلمان المغربي، أخيرا، على قانونٍ يتعلق بالخدمة العسكرية الإجبارية، بعدما أوقف العمل بالمرسوم الملكي لعام 1966؛ المتعلق بإحداث هذه الخدمة وتنظيمها، في أغسطس/ آب 2006. ويقر القانون الجديد مبدأ إخضاع المغاربة ذكورا وإناثا؛ بلا أي تمييز عكس القانون السابق، ممن أعمارهم ما بين 19 و25 سنة للخدمة العسكرية، خلال مدة محددة في سنة كاملة، مع إمكانية المناداة على البالغين أكثر من 25 سنة، ممن استفادوا من الإعفاء لأداء الخدمة إلى حين بلوغهم الأربعين.
ويأتي القانون؛ وفق ما جاء في مذكرة التقديم، انسجاما مع مضمون الفصل 38 من الدستور الذي ينص على وجوب مساهمة المواطنات والمواطنين في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية تجاه أي عدوان أو تهديد. ورغبة في إذكاء روح الانتماء للوطن، وتعزيز معاني التضحية ونكران الذات. ويظل هذا الكلام وغيره مما قيل في معرض الدفاع عن خيار الخدمة العسكرية للاستهلاك الإعلامي، ففي الكواليس أكثر من رواية بشأن عودة التجنيد الإجباري، بشكل غريب ومفاجئ من الناحية الزمنية والمسطرية معا. إذ تمت أسئلة عديدة عن احترام شكليات قانونية ودستورية؛ مرتبطة بجهة إصدار القانون، وتوقيت تلقي أعضاء الحكومة له، وإضفاء طابع السرية والاستعجال عليه، فحتى بعد إقراره، لم يتم كشف الجوانب الغامضة حوله؛ مثل الأهداف الحقيقية وراء العودة إليه، ودواعي الاستعجال في تمريره، نقيض قوانين أخرى لا تقل أهمية، وقبل كل هذا الفجائية التي تطبعه، إذ لم يكن في البرنامج الحكومي الذي صوّت عليه
البرلمان، ولا في البرنامج الانتخابي لأي حزب سياسي. كما أن مساره في مجلسي البرلمان يطرح أكثر من استفسار، فالمفروض أن يُحال مشروع القانون، بحكم الاختصاص، على لجنة الخارجية والدفاع الوطني، لكن مكتب مجلس النواب فضل إحالته على لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، بدعوى الارتباط القوي لمضامين النص بحقوق الإنسان، بيد أن التبرير نفسه رفضه مكتب المجلس، حين قرّرت اللجنة إحالة المشروع على المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لتقديم الرأي، وتعميق النقاش العمومي بشأنه.
وبالعودة إلى الروايات التي تروج بخصوص مبرّرات فرض التجنيد، نجدها تتراوح ما بين رأي يربط ما يجري بمعطيات السياقين، الدولي والإقليمي، ورأي آخر يعتبر أن متغيرات الشأن الداخلي هي الدافع الأساسي وراء الإقدام؛ وباستعجال، على هذه الخطوة. ويرى أصحاب السياق الدولي أن دولا عدة (فرنسا، إيطاليا، بريطانيا...) فتحت، في الآونة الأخيرة، النقاش بشأن الخدمة العسكرية، بعدما عمّت موجة التخلي عنها في تسعينيات القرن الماضي. فيما عمدت دول عربية إلى إعادة فرضها، مثل الكويت في العام 2017، وأخذت به أخرى لأول مرة، مثل قطر في 2013، والإمارات في 2014. ولا تمكن قراءة القرار المغربي؛ بعيدا عن هذا التوجه العالمي، الرامي إلى تأهيل دول عديدة جنودها، قصد إنشاء جيوش احترافية في السنين الأخيرة. ويظل تحقيق المغرب هذا الطموح عسيرا، في ظل تراجع المقبلين على الوظائف العسكرية، ومحدودية هامش الخيارات التي يوفرها المترشحون للعمل في الجيش.
وقد استدعى هذا الأمر نهج خيار الإلزامية، حتى تتمكّن المؤسسة العسكرية من اختيار أفضل العناصر لتعزيز صفوفها، قصد بلوغ الاحترافية المنشودة. وبالموازاة مع ذلك، توفير خزان من الموارد البشرية المؤهلة لباقي الأجهزة الأمنية (الشرطة، الدرك، القوات المساعدة، إدارة السجون...) التي تشكل العمود الفقري للدولة/ السلطة. وقد يتعدى الأمر دائرة الأمن؛ استنادا للقانون نفسه، لكي يمتد إلى باقي القطاعات، حيث سيتيح التجنيد الإجباري للدولة إمكانية التدخل في كل المجالات، بإعادة تدوير المجندين ممن لهم خبرات ومؤهلات مهنية أو تقنية في أماكن الخصاص، وهو ما يعرف في السابق بالخدمة المدنية.
لا تصمد هذه القراءة كثيرا أمام لغة التقارير، فالمغرب، بحسب ما نشره معهد استوكهولم لأبحاث السلام، هو البلد العربي الوحيد الذي خفض وارداته من الأسلحة خلال السنة الماضية؛ حيث لا تتعدى النسبة التي يمثلها من واردات السلاح العالمية سوى 0,9%. أكثر من هذا، يؤكد التقرير أنه خفض واردات سلاحه بأكثر من النصف ما بين سنتي 2013 و2017. ويستند أنصار السياق الداخلي إلى الاعتبارات الداخلية وراء اتخاذ هذا القرار، فما شهده المغرب من احتقان شعبي عارم في عدة مناطق (الريف، الجنوب الشرقي...)، ما بين عامي 2016 و2018، عجل بعودة التجنيد الإجباري صيف العام الماضي؛ مذكّرين بسياق فرضه أول مرة سنة 1966، بعد انتفاضة مارس/ آذار 1965، حيث جرى تجنيد النشطاء لقطع الصلة بينهم وبين المجتمع.
احتقان يعززه ارتفاع نسبة البطالة، فغالبية الشباب ما بين 15 و34 سنة؛ وفق دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ظلت على هامش النمو الاقتصادي المضطرد الذي شهدته
المملكة أخيرا، ما رفع النسبة في صفوفها إلى 20%. وقد عبر عنه عاهل البلاد، محمد السادس، بقوله: "ما يحز في نفسي أن نسبة البطالة في أوساط الشباب تبقى مرتفعة، فمن غير المعقول أن تمس البطالة شابا من بين أربعة، على الرغم من مستوى النمو الاقتصادي الذي يحققه المغرب على العموم. والأرقام أكثر قسوة في المجال الحضري". وعلى هذا الأساس، يتوقع أن تقود الدولة حملة تطهير شاملة في صفوف الشباب في مختلف المناطق التي تشهد احتقانا، ما يجعل الاحتجاج بلا قيادة؛ على غرار ما حدث في الريف بعد حملة الاعتقالات، ما يفضي في المحصلة إلى تحقيق الضبط الأمني والاجتماعي.
كما يتوقع أن يساهم التجنيد في زيادة منسوب الوطنية وقيم الانضباط والولاء، وتخفيض نسب البطالة؛ فنص القانون يفيد بأن المجندين سوف يتلقون تكوينا بأبعاد ثلاثية: عسكرية وتقنية مهنية وأيديولوجية. وبهذا يقوم الجيش بأكثر من مهمة، في الوقت نفسه، فهو من ناحية يؤهل الشباب ويشغلهم. ومن أخرى، يعزّز التماسك والاندماج الاجتماعي، في ظل تنامي النعرات العرقية والجغرافية.
يبقى الرهان على الخدمة العسكرية مدخلا لإعادة ضبط الأوضاع الداخلية؛ اجتماعيا وأمنيا واقتصاديا؛ كما لمحت إلى ذلك توصية من تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بشأن الشباب، نسبيا إلى حد كبير، لأن ما يطرحه حلول ترقيعية لا تعالج المشكلات من جدورها، فالظاهر؛ وبلغة الأرقام، أن الخدمة العسكرية غير قادرة على التصدّي لمشكلة البطالة، لأسباب عدة، ترتبط بمشكلات التمويل أولا، وبطبيعة التكوين ومدى ملاءمته سوق الشغل ثانيا. وغير قادرة على تحقيق التدجين والإخضاع (الترويض)، فنسبة الشباب المرجح أن يجتاز الخدمة سنويا ضعيفة جدا قياسا لمجموع الشباب المغربي؛ أقل من 10%.
ويأتي القانون؛ وفق ما جاء في مذكرة التقديم، انسجاما مع مضمون الفصل 38 من الدستور الذي ينص على وجوب مساهمة المواطنات والمواطنين في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية تجاه أي عدوان أو تهديد. ورغبة في إذكاء روح الانتماء للوطن، وتعزيز معاني التضحية ونكران الذات. ويظل هذا الكلام وغيره مما قيل في معرض الدفاع عن خيار الخدمة العسكرية للاستهلاك الإعلامي، ففي الكواليس أكثر من رواية بشأن عودة التجنيد الإجباري، بشكل غريب ومفاجئ من الناحية الزمنية والمسطرية معا. إذ تمت أسئلة عديدة عن احترام شكليات قانونية ودستورية؛ مرتبطة بجهة إصدار القانون، وتوقيت تلقي أعضاء الحكومة له، وإضفاء طابع السرية والاستعجال عليه، فحتى بعد إقراره، لم يتم كشف الجوانب الغامضة حوله؛ مثل الأهداف الحقيقية وراء العودة إليه، ودواعي الاستعجال في تمريره، نقيض قوانين أخرى لا تقل أهمية، وقبل كل هذا الفجائية التي تطبعه، إذ لم يكن في البرنامج الحكومي الذي صوّت عليه
وبالعودة إلى الروايات التي تروج بخصوص مبرّرات فرض التجنيد، نجدها تتراوح ما بين رأي يربط ما يجري بمعطيات السياقين، الدولي والإقليمي، ورأي آخر يعتبر أن متغيرات الشأن الداخلي هي الدافع الأساسي وراء الإقدام؛ وباستعجال، على هذه الخطوة. ويرى أصحاب السياق الدولي أن دولا عدة (فرنسا، إيطاليا، بريطانيا...) فتحت، في الآونة الأخيرة، النقاش بشأن الخدمة العسكرية، بعدما عمّت موجة التخلي عنها في تسعينيات القرن الماضي. فيما عمدت دول عربية إلى إعادة فرضها، مثل الكويت في العام 2017، وأخذت به أخرى لأول مرة، مثل قطر في 2013، والإمارات في 2014. ولا تمكن قراءة القرار المغربي؛ بعيدا عن هذا التوجه العالمي، الرامي إلى تأهيل دول عديدة جنودها، قصد إنشاء جيوش احترافية في السنين الأخيرة. ويظل تحقيق المغرب هذا الطموح عسيرا، في ظل تراجع المقبلين على الوظائف العسكرية، ومحدودية هامش الخيارات التي يوفرها المترشحون للعمل في الجيش.
وقد استدعى هذا الأمر نهج خيار الإلزامية، حتى تتمكّن المؤسسة العسكرية من اختيار أفضل العناصر لتعزيز صفوفها، قصد بلوغ الاحترافية المنشودة. وبالموازاة مع ذلك، توفير خزان من الموارد البشرية المؤهلة لباقي الأجهزة الأمنية (الشرطة، الدرك، القوات المساعدة، إدارة السجون...) التي تشكل العمود الفقري للدولة/ السلطة. وقد يتعدى الأمر دائرة الأمن؛ استنادا للقانون نفسه، لكي يمتد إلى باقي القطاعات، حيث سيتيح التجنيد الإجباري للدولة إمكانية التدخل في كل المجالات، بإعادة تدوير المجندين ممن لهم خبرات ومؤهلات مهنية أو تقنية في أماكن الخصاص، وهو ما يعرف في السابق بالخدمة المدنية.
لا تصمد هذه القراءة كثيرا أمام لغة التقارير، فالمغرب، بحسب ما نشره معهد استوكهولم لأبحاث السلام، هو البلد العربي الوحيد الذي خفض وارداته من الأسلحة خلال السنة الماضية؛ حيث لا تتعدى النسبة التي يمثلها من واردات السلاح العالمية سوى 0,9%. أكثر من هذا، يؤكد التقرير أنه خفض واردات سلاحه بأكثر من النصف ما بين سنتي 2013 و2017. ويستند أنصار السياق الداخلي إلى الاعتبارات الداخلية وراء اتخاذ هذا القرار، فما شهده المغرب من احتقان شعبي عارم في عدة مناطق (الريف، الجنوب الشرقي...)، ما بين عامي 2016 و2018، عجل بعودة التجنيد الإجباري صيف العام الماضي؛ مذكّرين بسياق فرضه أول مرة سنة 1966، بعد انتفاضة مارس/ آذار 1965، حيث جرى تجنيد النشطاء لقطع الصلة بينهم وبين المجتمع.
احتقان يعززه ارتفاع نسبة البطالة، فغالبية الشباب ما بين 15 و34 سنة؛ وفق دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ظلت على هامش النمو الاقتصادي المضطرد الذي شهدته
كما يتوقع أن يساهم التجنيد في زيادة منسوب الوطنية وقيم الانضباط والولاء، وتخفيض نسب البطالة؛ فنص القانون يفيد بأن المجندين سوف يتلقون تكوينا بأبعاد ثلاثية: عسكرية وتقنية مهنية وأيديولوجية. وبهذا يقوم الجيش بأكثر من مهمة، في الوقت نفسه، فهو من ناحية يؤهل الشباب ويشغلهم. ومن أخرى، يعزّز التماسك والاندماج الاجتماعي، في ظل تنامي النعرات العرقية والجغرافية.
يبقى الرهان على الخدمة العسكرية مدخلا لإعادة ضبط الأوضاع الداخلية؛ اجتماعيا وأمنيا واقتصاديا؛ كما لمحت إلى ذلك توصية من تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بشأن الشباب، نسبيا إلى حد كبير، لأن ما يطرحه حلول ترقيعية لا تعالج المشكلات من جدورها، فالظاهر؛ وبلغة الأرقام، أن الخدمة العسكرية غير قادرة على التصدّي لمشكلة البطالة، لأسباب عدة، ترتبط بمشكلات التمويل أولا، وبطبيعة التكوين ومدى ملاءمته سوق الشغل ثانيا. وغير قادرة على تحقيق التدجين والإخضاع (الترويض)، فنسبة الشباب المرجح أن يجتاز الخدمة سنويا ضعيفة جدا قياسا لمجموع الشباب المغربي؛ أقل من 10%.
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024
03 سبتمبر 2024