الأمم المتّحدة والإرهاق الدبلوماسي في نزاع الصحراء

23 أكتوبر 2024
+ الخط -

أعاد مبعوث الأمم المتّحدة إلى الصحراء ستيفان دي ميستورا، النزاع بشأن قضية الصحراء بين المغرب وجبهة بوليساريو إلى المربّع الأول، بعدما اقترح (مخالفاً التوقّعات كلّها) في مجلس الأمن خلال جلسة مغلقة، الأربعاء الماضي (16 أكتوبر/ تشرين الأول)، خيار تقسيم الإقليم وسيلةً لتسويةِ أحد أقدم النزاعات في القارّة الأفريقية. ما يسمح، وفق الدبلوماسي الأممي، "بإنشاء دولة مستقلّة في الجزء الجنوبي من جهة، ودمج بقيّة الإقليم جزءاً من المغرب من جهة أخرى، مع اعتراف دولي بسيادة المغرب عليه". هكذا سيصبح بإمكان الصحراويين اختيار السلطة التي يرغبون في العيش تحت إدارتها.

يعاكس مشروع التقسيم "الجديد" (وهو ليس كذلك؛ إذ سبق لجيمس بيكر الذي شغل منصب المبعوث الشخصي للأمين العام سبع سنوات (1997 - 2004) أن طرحه عام 2001 تحت مسمَّى "الحلّ الثالث")، الذي يمنح المغرب السيادة على ثلثَي الصحراء في مقابل إقامة "الجمهورية الصحراوية" في الثلث المتبقّي، التحرّكات والدينامية التي تشهدها قضية الصحراء في كلا الجانبين. وبدا ذلك واضحاً من تعليق دي ميستورا، الذي عبّر عن أسفه لعدم إظهار الطرفَين أيَّ مؤشّر على الاستعداد للمضي في التباحث بشأن هذا المقترح.

اعتبرت جبهة بوليساريو أنّ الخطة فشلت في ترسيخ حقّ "الشعب الصحراوي" في تقرير المصير. وزاد ممثلها لدى الأمم المتّحدة، سيدي محمّد عمّار، موقف الجبهة وضوحاً، بتصريحه بأنّها "تؤكّد بقوة رفضها التام والقاطع أيّ مقترحات أو مبادرات". هكذا تتوحّد الجبهة مع المغرب، هذه المرّة، في رفض خيار التقسيم، بعدما قبلت به سابقاً في مخطّط جيمس بيكر، حسبما ورد في تقرير الأمين العام الأسبق للأمم المتّحدة، كوفي عنان، في فبراير/ شباط 2002، بخلاف المغرب الذي كان دوماً معترضاً على مشروع التقسيم.

إحياء قرار التقسيم المنسي لأكثر من عشرين عاماً، بيدي الدبلوماسي السويدي الإيطالي دي ميستورا، مردّه إلى الجمود الذي طاول القضية في أروقة الأمم المتّحدة، لا سيّما منذ تعيينه مبعوثاً أممياً، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بعدما عجز عن استئناف العملية السياسية، مع الخشية من احتمال العودة إلى الخيار العسكري، بعد تحلّل الجبهة من اتّفاق وقف إطلاق النار عام 2021، ما دفعه إلى مطالبة الأمين العام بأن "يعيد النظر في جدوى دوره مبعوثاً للصحراء، إذا لم يتم تحقيق أيّ تقدّم خلال الأشهر الستّة المقبلة". لكنّ مساعي الرجل إلى إحراز تقدّم في نزاع معقّد ومتشابك يوشك على إتمام 50 عاماً، جاءت على عكس المتغيّرات في أرض الواقع من الجهتَين، فجبهة بوليساريو ومعها الجزائر، التي صرّح وزير خارجيتها أحمد عطّاف، بمناسبة يوم الدبلوماسية الجزائرية، بأنّ الحكم الذاتي "خرافة لا يمكن أن تؤسّس لأيّ حلّ لأنّها تتنافى أصلاً وحقّ تقرير المصير"، لا تزال منتشية بقرار محكمة العدل الأوروبية، الصادر في الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لصالحها ضدّ المغرب، ويقضي بإبطال اتفاقيتَي الزراعة والصيد البحري، المبرمتَين عام 2019، بين الرباط والاتحاد الأوروبي.

أحدث المغرب اختراقاتٍ دبلوماسية مهمّة، لعلّ أبرزها دعم واشنطن مشروع الحكم الذاتي في الصحراء، باعتباره حلّاً جِدّياً وواقعياً، يحظى بالمصداقية والقابلية للتطبيق

تنضاف نقطة جديدة للجبهة إلى مكاسب سابقة، جديدها أخيراً مضمون تقرير الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس، في أغسطس/ آب الماضي، بشأن المنطقة بعد ثلاث سنوات من تعليق العمل بوقف إطلاق النار، أعرب فيه عن قلقه العميق من تدهور الوضع في الصحراء، مطالباً الطرفَين بتجنّب أيّ تصعيد إضافي، معلناً أنّ "استمرار الأعمال العدائية وغياب وقف إطلاق النار يمثّلان انتكاسة واضحة في البحث عن حلّ سياسي لهذا النزاع طويل الأمد".

أحدث المغرب اختراقاتٍ دبلوماسية مهمّة، لعلّ أبرزها دعم واشنطن مشروع الحكم الذاتي في الصحراء، باعتباره حلّاً جِدّياً وواقعياً، يحظى بالمصداقية والقابلية للتطبيق. أعقبه تأييد عدة عواصم أوروبية، مثل: برلين ومدريد وأمستردام وبروكسيل وفيينا، وكانت باريس آخر الملتحقين بقائمة المناصرين للمبادرة المغربية، بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (في يوليو/ تمّوز الماضي) تأييد بلاده مخطّط الحكم الذاتي أساساً وحيداً لحلّ نزاع الصحراء. بذلك تكسب الرباط صوتاً آخرَ، في الخماسي دائم العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب الصوت الأميركي دفاعاً عن وحدته الترابية.

بالموازاة مع ذلك، ومنذ استعادة مقعده في الاتحاد الأفريقي، دشّن المغرب بدءاً من عام 2019 دبلوماسية القنصليات في الصحراء، وذلك بتشجيع الدول على فتح تمثيليات دبلوماسية لها في كبرى حواضر الصحراء (مدينتي العيون والداخلة). كانت تشاد أحدث الدول التي تخطو هذه الخطوة، بتدشينها (14 أغسطس/ آب الماضي) قنصليةً في مدينة الداخلة، ليبلغ إجمالي القنصليات هناك 30 قنصلية لدول أفريقية وعربية.

رفضت "بوليساريو" خيار التقسيم بعدما قبلت به في مخطّط جيمس بيكر (2002)، بخلاف المغرب الذي عارضه دوماً

كما كانت قضية الصحراء، وعلى غير العادة، محور آخر خطاب لعاهل البلاد، في افتتاح أشغال البرلمان (يوم الجمعة 11 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي)، فيما يشبه التفاعل، ولو بطريقة ضمنية، مع قرار محكمة العدل الأوروبية، وذلك بحديث الملك محمّد السادس عن إحراز تقدّم كبير في إدارة النزاع، من خلال انتقال المغرب في تعامله مع ملفّ الصحراء: "من التدبير إلى مرحلة التغيير داخلياً وخارجياً، وفي كلّ أبعاد هذا الملفّ، ودعوت كذلك للانتقال من مقاربة ردّ الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية".

يظهر أنّ هذا الحصاد الدبلوماسي المتراكم في القضية من الطرفَين لم يدخل في حسابات المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، لحظة اقتراحه التقسيم خياراً لإنهاء هذا النزاع، فتفاعل المغرب مع المقترح؛ أي القبول بمشروع دولة تلغي حدوده مع موريتانيا، يعني التفريط بالجغرافيا السياسية وتقاطعها مع تاريخانية الماضي والمصالح الاستراتيجية في العمق الأفريقي، والتفريط أيضاً في 17 عاماً من الجهود الدبلوماسية دفاعاً عن مشروع الحكم الذاتي، منذ تقديم الخطّة في إبريل/ نيسان عام 2007 في مجلس الأمن. كما يمثّل كذلك نكوصاً وردّة، بل وحتّى فقدانا للبوصلة. إذ لا يعقل أن ترفض الرباط خيار التقسيم عام 2001، وتقبله عام 2024.

نزاعاً تلو آخر يتبيّن عجز الأمم المتحدة في القيام بالأدوار التي استُحدث من أجلها قبل ثمانية عقود، ففي ملفّ الصحراء مثلاً اختار دي ميستورا أن يتحرّك ضدّ التيّار باستعادة حلول قديمة ومُتجاوَزة، وكأنّ دبلوماسية الأمم المتّحدة أصابها الإرهاق من نزاع الصحراء، متجاهلاً الأداء الدبلوماسي والحقائق في الأرض، وفي غيرها من القضايا في مختلف بقاع العالم، حتّى باتت أشبه بغرفة لتسجيل الحضور ليس إلا، وما حرب الكيان الصهيوني الهمجي على غزّة سوى دليل قاطع على حقيقة أنّ العالم بحاجة إلى أمم متّحدة جديدة.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري