حق العودة من الهامش إلى الصدارة

04 ابريل 2018
+ الخط -
أضافت مسيرات العودة الملهمة للأجيال الجديدة، والمثيرة لشتى العواطف الإنسانية النبيلة، قيمةً وطنيةً مضافةً إلى يوم الثلاثين من مارس/ آذار الخالد، أي إلى تلك المناسبة المجيدة التي يجري الاحتفال بها في عموم فلسطين التاريخية منذ إثنين وأربعين عاماً. كما كرست مواجهات هذا اليوم الذي شكل نقطة تحول كبرى، في سجل الصراع المديد على الأرض في داخل الداخل الفلسطيني، لحظة مضيئةً أخرى، تدعو إلى الاعتزاز، وتبعث على الشعور بالجدارة، في الكفاح  العنيد ضد احتلال استئصالي إجلائي، يحتفل بعد أيام قليلة بالذكرى السنوية السبعين لقيامه.
وكما أكدت المواجهات الشعبية العارمة في الجليل والمثلث والنقب عام 1976 أن الأرض هي جوهر الصراع، وفي القلب منه، جاءت مسيرات العودة التي لم تنته بعد، لتعيد إلى الأذهان أن موضوعة اللاجئين تكوّن الضلع الثاني في المثلث الذي تعتبر القدس قاعدته الأساس، الأمر الذي أدى إلى جلاء العناصر الرئيسة الثلاثة (الأرض والقدس واللاجئين) دفعة واحدة، أو قل إلى إشعال إحدى الجمرات الذاوية التي استمد منها الصراع القائم ، ولا يزال، جذوة اتقاده الدائمة على مدى سبعة عقود، كان فيها منطق القوة العسكرية المجرّدة يملي فيها حقائق الأمر الواقع بانتظام.
بكلام آخر، أبرزت هذه المسيرات السلمية، المقدر لها أن تتواصل ستة أسابيع، أن حق العودة ليس مسألة جانبية، أو أمراً ثانوياً يمكن تأجيله إلى آخر الأجندة التفاوضية، باعتباره عنصراً خلافياً يقع على هامش الهامش، أو أن هذا الموضوع ليس في وزن أي من الموضوعات الفرعية الأخرى، مثل المستوطنات أو الحدود أو المياه، ينبغي التعاطي معها بإلحاح أشد مما هو عليه حال اللاجئين المتروكين لأقدارهم في المخيمات وديار الشتات، تماماً على نحو ما دوّنته ذاكرة المفاوضات المتعثرة على مدى نحو ربع قرن، كانت فيها قضية المقتلعين من ديارهم وكأنها من سقط المتاع.
علاوةً على ما تقدم، ردّت المشاهد غير المسبوقة على تخوم السياج الفاصل بين قطاع غزة 
ودولة إسرائيل، كامل الاعتبار للعامل الذاتي الفلسطيني بعد طول غياب موجع، وخلقت ما يشبه الكابوس لدى الذهنية الإسرائيلية إزاء ما قد يتحول إلى زحف بشري مدني سلمي هائل، يجتاز الخط الوهمي الفاصل، باتجاه أرض الآباء والأجداد أمام عدسات المصورين، وهو أمر كان يخشى وقوعه بعض القادة والكتاب الإسرائيليين إبان الانتفاضة الثانية عام 2000، يحذّرون من حدوثه ضد مستوطنةٍ معزولةٍ في الضفة الغربية، ويدعون إلى تلافيه بكل السبل الممكنة، فما بالك والإرهاصات تتحدث عن مئات ألوف اللاجئين من قطاعٍ قوامه لاجئون.
كانت الرغبة في تسيير قوافل من اللاجئين إلى ديارهم حلماً فلسطينياً عزيز المنال، سعى له بعض النشطاء قبل سنوات طوال، عبر البحر من موانئ يونانية وقبرصية، وبمشاركة متضامنين أجانب، إلا أن الموساد كان يتمكن، في كل مرة، من تخريب محركات البواخر قبل أن تقلع إلى عرض البحر، ويحبط المحاولات في مهدها، الأمر الذي يمكن القول معه الآن إن هذه الرغبة الكامنة قد بدأت تستيقظ اليوم من سباتها الطويل، وإنه بات لديها حامل شعبي حقيقي، يقف على أرضيةٍ أصلب من ذي قبل، وتتآزر خلفها قوى أكثر تنظيماً، وأشد مراساً، مما كان لدى أولئك الحالمين.
ولعل أثمن ما حفلت به مسيرة العودة الواعدة بالمزيد أنها أعادت توجيه البوصلة الفلسطينية من جديد، وحشدت الحشود وراء هدف مركزي محل إجماعٍ لا مراء فيه، وهو حق العودة الذي كاد أن يتوارى خلف الكلام المسهب عن التوطين والتعويض، وفي ذلك مكسب أولي بالغ الأهمية، نقل قضية اللاجئين من الهامش إلى صدارة الأجندة السياسية الفلسطينية، وحولها من مسألة نصف ميتة إلى قضية رأي عام دولي، قد تكتسب مزيداً من النقاش والأرضية والاهتمام لدى الأوساط الغربية خصوصاً، وتعيد جلاء جوهر المأساة الفلسطينية، المستمرة في أنها قضية لاجئين.
وإذا كان صحيحاً أن المعركة مع إسرائيل هي معركة على الوعي في المقام الأول، ومعركة الصورة في المقام الثاني، إلى جانب عدد لا حصر له من المعارك على مختلف الجوانب، فإن ما جرى وسيجري على حدود القطاع المحاصر، مثّل ربحاً صافياً في المعركتين الحضاريتين للفاعل الفلسطيني الذي زعزع القناعة الإسرائيلية القديمة القائلة إن الأجداد يموتون والأحفاد ينسون، ووضع المحتلين بين عشية وضحاها أمام حقيقة أن هناك حقاً وراءه مُطالب، فيما كانت معركة الصورة تتجلى بدورها عن مكسب باذخ، بدت فيه إسرائيل دولة فاشية متوحشة، تقتل مدنيين عزّلا.
قد يكون من المبكر الحديث عن وقوع إسرائيل في مأزق سياسي، بفعل جريمتها البشعة ضد 
المتظاهرين السلميين في غزة والضفة الغربية، طالما أن الولايات المتحدة تقف ضد 14 دولة، لمنع صدور مجرد بيان أسف على الضحايا من مجلس الأمن الدولي، غير أن الدولة التي تتبتل في محراب القوة، وتعيش على حد السيف على مدار الساعة، ستجد نفسها، في وقت لاحق، مع تصاعد مسيرات يوم العودة في الأسابيع القليلة المقبلة، خصوصا إذا أفرطت في استخدام القوة، كما هو متوقع، نقول ستجد نفسها في مأزق أخلاقي شديد الوطأة على صورتها دولة ديمقراطية مزعومة.
وأحسب أن قطاع غزة سيسترد، مع تواصل المسيرات هذه، ومع زيادة زخمها تدريجياً، خاصيته الأولى رافعة كبرى من روافع النضال الوطني الفلسطيني المجيد. وسيستعيد، مع قليلٍ من الوقت، ميزته النسبية الفريدة، رأس حربة في الكفاح الضاري متعدد الأشكال والوسائل والأدوات، تلك الميزة التي تفرد بها القطاع مبكراً، وأبلى فيها أحسن البلاء، قبل أن يتحول، في لحظة عماء بصيرة، إلى منصة إطلاق للصواريخ، ويقع في أحابيل لعبة القوة، وينجرّ إلى المربع الذي تُحسن فيه إسرائيل اللعب بمهارة، وتتفوق فيه على كل اللاعبين العرب، منفردين ومجتمعين في المنطقة كلها.
غداة هذه المسيرات المبشرة بزمن فلسطيني مختلف، نقف اليوم قبالة نقطةٍ فارقةٍ في مسار الصراع المقدر له أن يشتد ويتفاقم أكثر من أي وقت مضى، نقطة يمسك فيها الفلسطينيون بأيديهم العارية على لحظةٍ سياسيةٍ مواتية، لدفن صفقة القرن في مهدها، وتحقيق مزيد من المكاسب التكتيكية المهمة، وهي كثيرة، ناهيك عن مكسب استراتيجي ظل بعيد المنال، ونعني به استعادة الوحدة الوطنية، إن لم تكن المصالحة، على قاعدة تصعيد الكفاح الشعبي المقاوم، رديفا مؤجلا، ولو مؤقتاً، لخيار الكفاح المسلح الذي بدا، منذ آخر عدوان على قطاع غزة، خياراً غير ملائم، وفق مقتضيات هذه المرحلة التي قلّت فيها البدائل المناسبة، وانعدم فيها الحلفاء تقريباً.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي