شموع وسط الظلام العربي

30 مارس 2018
+ الخط -
في رحاب معهد الدوحة للدراسات العليا، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التأم أخيراً مؤتمر لطلاب دكتوراه عرب دارسين وباحثين في الجامعات الأجنبية. وعلى مدار ثلاثة أيام، ناقش 83 باحثاً وباحثة، قدموا من 40 جامعة في أوروبا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأميركية، أوراق ومشاريع رسائل جامعية في مختلف اختصاصات العلوم الاجتماعية والإنسانية. وجاء هذا المؤتمر غير المسبوق، النوعي في قيمته العلمية والأكاديمية، والمتميز بحضور نخبة من الطاقات العربية الشابة، ليشعل شمعة تبدد ظُلمة واقع عربي حالك. شباب وشابات عرب، شموع وقامات أكاديمية نيرة، جاءوا من زوايا الأرض، يمثلون الطاقات الكامنة أو المبعثرة في مجتمعاتنا العربية، ليؤكدوا على غزارة الثروات في أجيالنا الشابة التي تتحدّى كل الصعوبات، وتذهب بعيدا وعميقا في تحديات العلم والمعرفة.
مظلة علمية أكاديمية بحثية، فتحها المنظمون ليستظل تحت جنباتها شبانٌ عرب مبدعون، في فضاء جامع لطلبة الدراسات العليا والباحثين العرب في الأكاديميات الغربية، ضمن سعي إلى توحيد جهودهم في إيجاد مقاربات وأطروحات بشأن أزمات الواقع العربي، وتحفيز التفاعل بينهم حول قضايا بلدانهم الراهنة. بأخذ هذه المهمة الرائدة على عاتقهما، يؤسس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا، لفضاء حيوي تفاعلي بين باحثي الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية، بما يسمح بتبادل الخبرات فيما بينهم، ويوطّد علاقاتهم بالمؤسسات البحثية والجامعية العربية، ويُتيح للطلاب المشاركين فرصة التعرّف عن قرب إلى الأجندات البحثية العربية، وتشبيك علاقات مهنيةٍ وبحثيةٍ مع الأكاديميين في جامعات المنطقة.
مواضيع الأوراق البحثية التي عرضت على مدار أيام المؤتمر، وعمق القضايا التي انهمك فيها الباحثون، مهما تباينت من حيث المناهج، وتفارقت في الانشغالات والتنظير والتحليل، إلا أنها حفلت بأسئلةٍ مهمةٍ وشائكةٍ، حاول الباحثون تفكيك رموزها في أوراق علمية، بجرأةٍ لا مواربةَ فيها، وبموضوعيةٍ لا تخفي بعض الحيادية. وقد لامس المفكر العربي، عزمي بشارة، بعضاً من هواجس الباحث، المُنشغل بقضاياه الوطنية، سيّما لجهة الموازنة بين الموضوعية العلمية والذاتية المنحازة، وقال للحاضرين في جلسة الافتتاح: "لكي نخوض في العلوم الاجتماعية والإنسانية، أو أيّ علوم أخرى، يجب أن نتوخّى الموضوعية، وهي ليست بالضرورة حياداً، بمعنى اتباع المنهج العلمي وتوخي البحث عن الحقيقة، ومحاولة التدقيق في المعطيات، وإبعاد أيّ تدخل في عملية الاستدلال أو الاستنتاج". والحياد هنا مسألة أخلاقية، إذ قد يكون المرء موضوعياً ولكنه غير محايد في القضايا التي تهمّ أمته وشعبه. ورأى بشارة أنّ المحرك الأساسي للتصدي لأسئلة النهضة يتطلب، من دون أدنى شك، الأدوات العلمية اللازمة، وكذلك الموقف الأخلاقي، والاستعداد للخوض في الشأن العام وعدم الخوف، وهذا ما يقود إلى تمييز آخر بين "الموضوعية" و"الحياد". كما ميَّز عزمي بشارة بين المثقف والخبير من جهة التدخل في الشأن العام، وقال إنّ المسألة محسومة لديه لصالح المثقف. وهذا الأمر في رأيه ليس ادعاءً، وإنّما هو قائم على أساس العلم والمعرفة. وأكد أنّ ثمة فرقا آخر بين المثقف والخبير، يتمثل بموقف المثقف العمومي عند تدخّله في الشأن العام، فموقف المثقف يجب أن يكون أخلاقياً بالضرورة.
خارج قاعات البحث والنقاش، كانت تعقد جلسات راحة تجاذب فيها المشاركون أطراف الأحاديث عن بلدانهم "الأم"، وعن تجاربهم الشخصية في "المنافي الأكاديمية"، محاولين كسر عزلةٍ لطالما شعر بها طالب الدكتوراه، بينما هو غارق في مكتبه أو مخبره. أيام مليئة بالنقاش العلمي الرصين والصارم، حاول المضيفون التخفيف من حرارتها بجولات استراحةٍ بين أرجاء الدوحة، مرة للاستمتاع بذخائر متحف الفن الإسلامي، وأخرى للتجوال في "سوق واقف" وتناول ما لذ وطاب من الكنافة النابلسية والمأكولات الشامية، والقهوة القطرية المعطرة بالهيل والزنجبيل، وكان في ذلك زاد وزوادة تقوّي همم السائرين على طريق العلم، نزولاً عند المثل المغربي الشهير "إذا شبعت البطن قالت للرأس غنِّ".
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.