سعادة القائد المزمن
غالباً ما يُستخدم تعبير مُزمن (Chronic) في لغة الطب لوصف مرض طويل الأمد أو متكرّر. ويصف مصطلح مزمن مسار المرض، أو معدّل الاٍصابة والتطور. ويتميز المسار المزمن عن المسار المتكرّر بأن الأمراض المتكرّرة ترتدّ مراراً مع فتراتٍ بينيةٍ من الكمون أو الهدوء. وفي اللغة، تعني مرِض مرضاً يدوم زماناً طويلاً، وضعُف بعد كبَرِ سنٍّ أَو مطاولةِ علّةٍ، فهو زَمِنٌ، وزمينٌ. واصطلاحاً، يطلق التعبير على شخصٍ أزمن في موقعه أو منصبه، أي مرّت عليه عقود وسنون في منصبه العام حتى صار مثل المرض المزمن.
مناسبة الحديث عن المرض المزمن تكاثر حالات المزمنين من البشر، الذين يستفحلون في مواقعهم العامة، ولا يغادرونها إلا إلى دور إيواء بعد أن تتمكّن منهم أمراض مزمنة، أو ينتقلون إلى دار البقاء الأبدي. وفي حالة سفير فلسطين في إيران صلاح الزواوي، الذي أزمن في منصبه أكثر من 40 عاماً (1982-2022)، كان لسعادته خياراً ثالثاً، إذ تكّرم بالتنازل عن كرسيه لابنته، سلام، التي أدّت اليمين أمام الرئيس محمود عباس. وهنا نقترح أن يتم تعديل نص القسم ليتضمن عبارة "وأن أحافظ على منصبي هذا لأبنائي وأحفادي من بعدي". وهكذا يُزمن منصب تمثيل فلسطين في إيران في نسل صلاح الزواوي وأنجاله لأزمان أخرى.
والإزمان في المناصب مرضٌ متفشٍّ في الأوساط الفلسطينية، فالرئيس الفلسطيني مثلاً مزمن في عضوية القيادة الفلسطينية (اللجنة المركزية لحركة فتح، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والرئاسة الفلسطينية)، منذ ما يزيد عن نصف قرن، وبالتالي هو مزمن، ومُقرّن. ولا ينافسه في الإزمان والتقرين إلا رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون (أبو الأديب)، الذي يشغل منصب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني منذ سنة 1996، وهو المنصب الذي تولاه بالوكالة في 1993، وشغل منصب نائب رئيس المجلس منذ العام 1969، أي أنه يجلس على قمة هرم السلطة التشريعية الفلسطينية منذ ما يزيد عن نصف قرن.
ولا يقتصر الإزمان على قيادات فتح، الحركة المزمنة في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، ولكنه علّة تسري على امتداد الجسد الفلسطيني، كحالة الرفيق نايف حواتمة، الأمين العام المزمن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، منذ تأسيسها وانطلاقتها في 22 فبراير/ شباط 1969، وقد جُدد له عدة مرات في انتخابات ديمقراطية لم ينافسه فيها أي مرشّحين، آخرها في 2018، في ختام أعمال المؤتمر الوطني السابع للجبهة. وبذلك تفوّق الرفيق الديمقراطي نايف حواتمة في الإزمان على معمّر القذافي، وحافظ الأسد، وحسني مبارك، وزين العابدين بن علي، وعلي عبد الله صالح، رحمهم الله جميعاً. ولم يكن الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المرحوم جورج حبش، أقل إزماناً، إذ ظل على رأس المكتب السياسي للجبهة منذ العام 1969 وحتى 2000 عندما ألزمه مرضٌ مزمن الفراش، ولم يعد قادراً على أداء مهام منصبه.
وطالما أن الذي فتح الحديث عن الأمراض المزمنة في ساحة العمل الفلسطيني العام هو توريث الدبلوماسي العتيق، أو كما يُطلق عليه في الدوائر الفلسطينية "شيخ السفراء" صلاح الزواوي، منصبه في طهران لابنته، فهذا يُذكرنا بحال رئيس الدبلوماسية الفلسطينية بعينه، وزير الخارجية والمغتربين رياض المالكي، وهو المزمن في هذا المنصب منذ تشكيل حكومة سلام فياض الثانية في عام 2009 مروراً بحكومة سلام فياض الثالثة، وحكومات رامي الحمدلله الأولى والثانية والثالثة، ولا يزال في المنصب في حكومة محمد اشتية التي شُكلت عام 2019.
لا يتمايز واقع السلطة الفلسطينية عن واقع الأنظمة السياسية في المحيط العربي، ولا أظن أن عاقلاً توقع مثل هذا التمايز أو التميز لنظام وَرِثَ جينات النظام السياسي العربي. وبالتالي، ليس مُستهجناً تفشّي أمراض مزمنة في خلايا نظام نَسخ من الأنظمة العربية الاستبدادية آيات توريث الأوطان والرعايا، وكأن الشعب متاعٌ يورّث من سفير لابنته، أو كأن الوطن تركةٌ توزّع بين الأبناء والأحفاد.