منظمة وطنية وحسابات حزبية

10 اغسطس 2017
+ الخط -
شكّلت زيارة وفد الاتحاد التونسي للشغل إلى سورية، وما رافقها من تصريحات، موضوع جدل ونقاش حاد في الأوساط السياسية والشعبية التونسية. وعلى الرغم من الطبيعة النقابية للمنظمة، فقد طغت الحسابات الحزبية الضيقة على الزيارة، باعتبار أن أعضاء الوفد الزائر معروفون بانتماءاتهم الحزبية، سواء لأقصى اليسار التونسي أو للتيارات القومية.
يتجاوز الهاجس الأساسي الذي أثاره هذا الحدث الشعار الذي رفعه منظمو زيارة الدعم لنظام الاستبداد السوري، ليطرح إشكالات حول شرعية توظيف منظمة نقابية عريقة لحسابات حزبية من جهة، ومدى إيمان أعضاء الوفد والمجموعات السياسية التي ينتمون إليها بالعمل السياسي التعدّدي، وفكرة الديمقراطية ذاتها؟
من المعروف أن الاتحاد العام التونسي للشغل، وعلى الرغم من تقاطع نشاطه النقابي مع المسائل السياسية، تأسس في نشأته خارج الحسابات الحزبية، ولم يكن مؤسسه، فرحات حشّاد، ممن يتحمس للنشاط النقابي على الطريقة اليسارية، وهو ما يفسر انسلاخه عن نقابات السي جي تي (CGT) قبل تأسيس الاتحاد، ثم رفضه انخراط الاتحاد ضمن الأممية الشيوعية (الكومنترن)، وتفضيله النشاط ضمن الجامعة الدولية للنقابات الحرّة (السيزل). وقد استمر الخط النقابي الذي رسمه حشّاد مستمرا مع الحبيب عاشور، على الرغم من التحالفات والصراعات للتي خاضها مع نظام الحبيب بورقيبة والحزب الدستوري.
ومع وصول نظام بن علي إلى السلطة، وإلغاء كل مظاهر النشاط الحزبي التعدّدي، تحول الاتحاد، بصورة أو بأخرى، إلى ملاذٍ لمجموعات حزبيةٍ كثيرة استغلت حالة الفراغ، لتتمدّد داخل الاتحاد، ولكن من دون أن تدخل المنظمة في صراعٍ مع سلطة الرئيس المخلوع، بل حافظت قيادات كثيرة كبرى للاتحاد على علاقة مرنةٍ ومصلحيةٍ مع النظام آنذاك.
وبعد الثورة، وفي ظل تحرّر كل المنظمات من رقابة نظام الاستبداد، اندلعت حرب مواقع 
داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، لتجد مجموعاتٌ حزبية كثيرة، وخصوصا المحسوبة على اليسار، نفسها متنفذة في الهيكل القيادي للاتحاد. ومن هنا، حاولت توظيف هذا الحضور القيادي النافذ من أجل خدمة حسابات حزبية في الداخل، ثم امتدت إلى الخارج. ففي الداخل، استفاد الاتحاد من فوضى الصراع بين القوى السياسية في أثناء حكم الترويكا، وأصبح شريكاً مع منظمات أخرى في إدارة حوار وطني، انتهى بحصوله على جائزة نوبل للسلام سنة 2015، رفقة ثلاث منظمات أخرى. ولم يكن فوزه بالجائزة ناجما عن رغبةٍ فعليةٍ لقيادات الاتحاد في إنجاح التجربة الديمقراطية، بقدر ما كانت محاولةً من القوى الدولية، لدعم التجربة التونسية، وقطع خط الرجعة على المنطق الانقلابي الذي كان يُسوّقه.
وما يؤيد هذا التفسير سلوك قيادة الاتحاد نفسها، خصوصاً المحسوبين على مجموعاتٍ قوميةٍ وماركسية أرثودوكسية، من جهة إيمانها بالفكرة الديمقراطية ذاتها، وهو أمر تجلى في جانبين، أولها أن عددا من هذه القيادات لم يخف تأييده العمل الانقلابي الذي جرى في مصر سنة 2013، والثاني هو زيارة وفد الاتحاد، أخيرا، نظام سورية الدكتاتوري، الأمر الذي أثار لغطا كثيرا بشأن مدى إيمان هؤلاء بالديمقراطية أو التعدّدية، فالناشط النقابي التونسي الذي يتمتع بحق الإضراب، ويمارس كل أشكال النقد للسلطة السياسية في بلاده، من دون مساءلة أو رقابة، يقدم آيات الولاء وفروض الطاعة لبلد يحكمه الحزب الواحد، ولا يعرف معنى الجدل حول الشأن العام، بل ويتم تعيين قادة منظماته النقابية التي ما زالت ذراعا تابعا للحزب الحاكم.
فحالة التناقض هذه بين وفد نقابي/ حزبي، يتمتع في بلاده بكل الحقوق والحريات، وأحيانا الامتيازات المالية والحراسات الشخصية، يساند نظاما ذا بنية استبدادية مغلقة. إنها مفارقة تكشف عن البون الشاسع بين الواقع التعدّدي في تونس وقوى تستفيد منها، لكنها تطمح نحو نموذج الطغيان والإقصاء والإلغاء.
وزادت المشهد قتامةً ردود أفعال أعضاء الوفد على النقد الموجه إليهم، فبعضهم خيّر منتسبي المنظمة بين مساندة بشار أو الانسلاخ منها، في موقفٍ يكشف عن الحد الذي بلغه الفكر
المنغلق، والرغبة في الاستئثار بمنظمةٍ وطنيةٍ، هي في الواقع فوق التشكيلات الحزبية أو هكذا ينبغي أن تكون. أما عضو الوفد، بوعلي المباركي، فلم يتأخر عن التصريح أن كل من هاجم الزيارة إنما هو من مجموعات إرهابية سلفية (هكذا)، وليستعيد خطاباً حدّيا مانوياً يقوم على ثنائية من ليس مع بشار فهو مع الإرهاب. ويؤكد هذا النمط من التصريحات خطورة المنزلق الذي تسير فيه القيادة الحالية للاتحاد، أولا من جهة خروجها عن الخيار الرسمي بعد رفض مجلس النواب المنتخب ديمقراطيا إعادة العلاقات الدبلوماسية مع نظام بشار. وثانياً من جهة توظيفها، وبشكلٍ مبالغ فيه للمنظمة النقابية التي كان ينبغي، ومن الأساس، تحييدها عن الصراعات الحزبية الضيقة، وجعلها علامة على الوحدة الوطنية وممارسة الديمقراطية الداخلية، فمما لا يمكن تبريره أن يتحدّث أعضاء الوفد باسم الشعب التونسي، بل ويطالب بعضهم هذه الشعب نفسه بالاعتذار لنظام بشار. ولأن الأمر يتعلق بمدى التمثيلية، من السهل حسم هذا الموضوع في ظل النظام الديمقراطي التونسي، أعني أن يتقدم أعضاء الوفد للانتخابات التشريعية أو الرئاسية ليكتشف الجميع حجم التأييد الذي يحظى به هؤلاء. أما محاولة تعويم الموقف والتصرّف بفظاظةٍ مع النقد الذي وجهه إليهم جزء مهم من الشارع التونسي، فهو لا يعبّر سوى عن هروب إلى الأمام، وعجز عن التأقلم مع المشهد السياسي الجديد في البلاد الذي قطع خطواتٍ كبيرةً للحسم مع الذهنية الاستبدادية التي ما زال بعضهم، للأسف، يتحرك من خلالها.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.