هل أصبحت تونس عصيةً على الحكم

07 مايو 2017

احتجاجات ضد الحكومة في العاصمة التونسية (29/4/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تعاقبت منذ الثورة على تونس سبع حكومات، لكن مشكلات البلاد ظلت تتراكم، وإخفاقات الحكم تستفحل، حتى بات بعضهم يعتقد أن تونس غدا من المستحيل حكمها، وأنها أصبحت خارج التأطير الذي تعارفت عليه المجتمعات الحديثة، أي تلك الحلقة التي تبدأ بانتخاباتٍ تفرز حكوماتٍ تتحمل أعباء الحكم ومسؤولياته، تحت رقابة المؤسسات التشريعية أو غيرها، وقد تقال أو تستقيل لأسباب وجيهة، فتنظم انتخابات أخرى وهكذا دواليك. ولكن تظل الحكومات تستند، في ذلك كله، إلى ضربٍ من المشروعية، يمنحها مقبولية لدى المواطنين، فالانتخابات ليست مجرد ممارسة حق دستوري يمنح المواطنين الحق في اختيار من يحكمهم، بل هي أيضا منهج وآلية لتنظيم الحياة السياسية ومنحها أقدارا واسعةً من الاستقرار، كما أنها أيضا وسيلة لمجازاة الأحزاب والزعامات، أو معاقبتها عن أدائها طوال فترة الحكم.
استهلكت تونس، إلى الآن، ما يناهز سبع حكومات، والعدد مرشّح للارتفاع، ذلك أن حكومة يوسف الشاهد الحالية بدت مترنحة منذ أسابيع، وقد تسعفها عطلة الصيف المقبلة التي تتكفل، في مثل هذا الوقت، برخي حبال السياسة وتخفيف التوتر، بوقت إضافي ولو إلى حين. ربما تدرك حكومة الشاهد الانتخابات البلدية التي يفترض أن تنعقد أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ولكن من غير المستبعد أن تتنحّى، إذا استمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي محتقنا.
علامات هذا المرض الذي نرجو ألا يستفحل فيصبح عضالا، عديدة، أهمها عدم الاستقرار
السياسي، ولا نعني بذلك مجرّد تداول الحكومات بشكل سريع يعوق رسم استراتيجيات طويلة الأمد فحسب، بل غياب التماسك بين مكوّنات الائتلاف الحاكم، على الرغم من الحديث عن توافقات وطنية مهمة. فحكومتا ما بعد انتخابات 2014، سواء حكومة الحبيب الصيد أو حكومة يوسف الشاهد الحالية، ظلت فاقدة للسند الحزبي القوي، خصوصا في أثناء الأزمات، على الرغم من أنها توصف بأنها "حكومات وحدة وطنية". هذا التداول السريع للحكومات والتحويرات التي تعرفها داخل تشكيلاتها (أقال الشاهد في أقل من ثمانية أشهر أربعة وزراء) ستكون عاجزةً عن حل المشكلات الهيكلية التي تقتضي حلولا طويلة المدى. تضطرّ هذه الحكومات، لهذه الأسباب، للاشتغال وفق نموذج إطفاء الحرائق، وهو منهج عملٍ ورّط هذه الحكومة وأعضاءها بشكل خاص، ما انعكس سلبا على صورتها وصورة أعضائها.
يستنكر أعضاء في الحكومة الحالية حالات الصدّ التي ووجهوا بها من المواطنين التونسيين، بل وحتى منظوريهم من أصحاب المواقع العليا وعموم الموظفين، وخصوصا النقابيين منهم. وقد وصل الأمر إلى حد رفع شعارات "ديقاج"/ "ارحل" في مدينة تطاوين (أقصى الجنوب)، في وجه رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، في زيارته لها قبل أسبوعين، إثر اندلاع موجة من الاحتجاجات الاجتماعية غير المسبوقة. وتواصلت حالات الانفلات السياسي، حين منع وزير التجارة والصناعة من زيارة معمل الفولاذ في مدينة منزل بورقيبة (شمال)، قبل أيام، حيث عمد نقابيون إلى منعه من الدخول وسط ذهول مرافقيه، وقبله منع رجال التعليم وزير التربية من زيارة مؤسسات تعليمية في إحدى مدن الشمال الغربي. وهذه أمثلة قليلة عن حالات الرفض المتكرّر لجل المبادرات الحكومية وأنشطة أعضائها، حين يزورون مناطق التوتر.
ويعكس هذا السلوك السياسي المنفلت الذي يصل أحيانا إلى حد العدمية والفوضى أزمةً عميقةً تخفي أبعادا خطيرة لا تخرج عن أربع: الثقافة السياسية القائمة على الاحتجاج وسلب
المؤسسات السياسية وممارساتها المشروعية، وهي ثقافة تغلب عليها، في أحيان كثيرة، العدمية، وقد تراكمت بمقتضى الخيبات المتكرّرة جرّاء المنجز الهزيل، خصوصا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. الأداء المتواضع لوزراء عديدين، على المستوى المهني، والأخطاء الاتصالية الخطيرة التي تعود إلى افتقاد المهارات اللازمة، على غرار تصريحات وزيرة المالية، لمياء الزريبي، المتعلقة بالدينار (العملة الوطنية)، وهي التي توقعت انخفاضا حادا في قيمة الدينار، وكلفتها إقالة تمت ليلة الاحتفال بعيد العمال العالمي. وكادت تصريحات وزير البيئة والشؤون المحلية، رياض المؤخر، تتسبب بأزمة مع الجزائر وليبيا، وقد قال، في لقاء ترويجي لصورة تونس في إيطاليا، إنه يفضل دوما، وهو يحدّد موقع بلاده الجغرافي لمن لا يعرفها، القول إن تونس تقع تحت إيطاليا، مفضلا تجنب الإشارة إلى أنها بين الجزائر الشيوعية وليبيا المخيفة (بتعبيره)، وهي تصريحات غير رصينة، حتى لو سلمنا بسلامة نيته. وقد يبدو أن رئيس الحكومة لم يكن له هامش واسع لاختيار أعضاء حكومته، وقد يكون معظم وزرائه فرضوا عليه فرضا، لأسباب "المحاصة الحزبية" طورا وسياسة ترضيات لوبيات ومراكز متنفذة. الأمر الثالث، انحرافات النظام السياسي التونسي الحالي، مع انتخاب الباجي قائد السبسي رئيسا سنة 2014، إلى ما يشبه "النظام الرئاسوي"، في اختلاف صريح مع ما نص عليه الدستور، فرئيس الجمهورية الحالي الذي يفتخر دوما بأنه ابن بورقيبة وتلميذه النجيب لم يستسغ بعد نظاما سياسيا يجرّده من جل صلاحياته. لذلك، يصر على التدخل في تفاصيل السلطة التنفيذية، وخصوصا صلاحيات رئيس الحكومة التي قضم منها الكثير، بما فيها اختيار أعضاء حكومته. أخيرا، العجز عن تجديد معنى "هيبة الدولة"، وهي التي تجرأ عليها القاصي والداني. بدا الانحدار بهذا المعنى، حينما حرضت المعارضة على الترويكا، وتم تشغيل ماكينات المال والإعلام الفاسد من أجل تشويه رجال الحكم آنذاك، فتمت محاصرة مؤسسات الدولة ومنع الوزراء وأصحاب المواقع الوظيفية العليا من مباشرة مهامهم. ولم يكن يدري قادة التحريض أنهم سيكونون، هم أنفسهم، ضحايا هذه الممارسات، بعد سنوات قليلة من إسقاط حكم الترويكا، فعديدون منهم غدوا وزراء.
تفيض مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف الصور التي توثق تصريحات عديدين منهم (من الوزراء الحاليين) الذين كانوا يشيطنون خصومهم، ويدعون الناس إلى النزول إلى الشارع و"كنس مؤسسات الدولة ورموزها"، في حين يستميت هؤلاء حاليا للدفاع عن تحريم أي حراكٍ، أو تجريمه، حتى ولو كان سلميا، باسم المصلحة العليا للوطن هذه المرة.
ستحتاج تونس عقودا طويلة، وتحولات جيلية، بقطع النظر عن حجم النجاحات الاقتصادية والمكاسب السياسية، حتى ترسّخ ثقافة سياسية تعظّم المشترك السياسي، وتحترم الدولة ورجالاتها ورموزها، بعيدا عن كل تقديس أو ترذيل.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.