ما يعنيه انتصار اليمين المُتطرّف الأوروبي
لم يشكّل صعود أقصى اليمين في الانتخابات الأوروبية، قبل أيام، مفاجأةً، فقد كانت النتيجة مُتوقّعة، وأفادت عمليات سبر (استطلاع) الآراء بأنّه صعود مُرتقب، وبالنسبة التي قاربت ما أُعلِنَ، فهذه نتيجة عامّة، بقطع النظر عن تفاصيلها، ونصيب كلّ بلد منها على حِدَة. تأتي هذه النتائج في سياق دولي يشهد فيه العالم ما يناهز 40 من الانتخابات تهمّ رؤساء الحكومات والدول. كما أنّها تأتي في سياق إقليمي أوروبي ميزته التوتّر، نتيجة تصاعد التهديدات الأمنية، ففي الحدود الشمالية، تشهد أوروبا حرباً مستعرةً جمعت شقيقَين يشتركان في أكثر من سمة، فضلاً عن التاريخ الذي جمعهما طويلاً، فقد كانا من النواة الصلبة للاتحاد السوفييتي أكثر من نصف قرن تقريباً. وفي الحدود الجنوبية، تشعُر أوروبا بأنّها في خطر وجوديّ ناجمٍ من تصاعد موجات الهجرة القادمة إليها من أفريقيا. وهي الورقة التي استعملتها الأحزاب اليمينية لنشر أفكارها ومعتقداتها. لقد تمكّنت عدّة أحزاب يمينية من الصعود إلى الحكم خلال السنوات الماضية، لهذا السبب تحديداً. الشعبويات اليمينة، تحديداً، انحرفت شعبوياتٍ مناهضةً للمهاجرين. استندت هذه الأحزاب إلى إسلاموفوبيا تجعل العرب والمسلمين خطراً يهدّد هُويّة أوروبا باعتبارها نادياً مسيحيّاً.
اختفت تقريباً الأحزاب الشيوعية في أوروبا ثمّ لحقت بها الأحزاب الاشتراكية. ما نشهده حالياً من تعبيرات يسارية هي نوستالجيا ونزعة حالمة
كانت النتائج متوقّعة، خصوصاً في ظلّ صعود أقصى اليمين في البلدَين اللذَين يُعدَّان رئة أوروبا؛ ألمانيا وفرنسا، فهما شهدا، تباعاً، صعوداً لليمين في آخر انتخابات شهداها، ولولا بعض التحالفات العسيرة والهشّة لأمكن لأقصى اليمين أن يفوز بها. تكاد كلّ الديناميات الانتخابية تنحصر في منافسات وتحالفات تقع في ساحة اليمين السياسي، أمّا اليسار فقد ظلّ يتراجع دراميّاً منذ بداية القرن. أكثر مع عقدين مرّا على هذا التحوّل ولا يزال الأمر يستفحل. اختفت تقريباً الأحزاب الشيوعية في أوروبا، ثمّ لحقت بها الأحزاب الاشتراكية. ما نشهده، حالياً، من تعبيرات يسارية هي نوستالجيا ونزعة حالمة. برهنت مختلف الانتخابات، في البلدان الأوروبية، أنّ هذه التعبيرات، رغم مبدئيّتها، غدت قاصرةً عن إقناع الناخبين وتعبئتهم.
في هذا المناخ، استطاعت انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً أن تحوز نسبة إقبال تعدّ مُهمّة، في ظلّ العزوف المتواصل عن الانتخابات عموماً، واتساع رقعة عدم التسيس واللامبالاة الانتخابية، التي تعصف بفئاتٍ اجتماعيةٍ عديدة، فإذا كانت نسبة الإقبال، عموماً، قد تجاوزت 51%، فإنّها قد سجّلت نسباً مرتفعةً في دولٍ عديدة، على غرار بلجيكا (عاصمة الاتحاد الأوروبي)، ولوكسمبورغ، وغيرهما، في حين كانت في حدود 51%، أيضاً، في فرنسا، أمّا في ألمانيا فكانت 64%... إلخ.
تفيد قراءةٌ متأنّيةٌ في الانتخابات البرلمانية، هذه، كما أشير أعلاه، إلى اتّساع نفوذ اليمين، إذ لم تتردّد صحيفة لوموند الفرنسية أن تدقّ جرس الإنذار، في عددها يوم 13 يونيو/ حزيران الحالي، حين كتبت أنّ أقصى اليمين في الدول المؤسّسة للاتحاد الأوروبي، تحديداً، يفوز بها. فالدولتان الوحيدتان اللتان لم يصعد فيهما نواب أقصى اليمين طرفيّتان؛ مالطا وسلوفينيا. أمّا البلدان اللذان حلّ فيهما أقصى اليمين في المرتبة الأولى فهما النمسا وفرنسا.
لا يُعدّ ماكرون اشتراكياً أو يسارياً فهو ابن اليمين البراغماتي الذي ظلّ يصارع لإيجاد بديل خارج تلك التصنيفات الكلاسيكية؛ يسار/ يمين
وإذا كان الأمر مُتوقّعاً في النمسا، نظراً إلى التراث السياسي، الذي ظلّ يتراكم بين انتخاباتٍ وأخرى، فإنّ المفاجأة كانت فرنسا تحديداً، وهي التي ظلّت تُنكر انحرافها اليميني تحت ذرائع مُتعدّدة تقدّمها، ومنها كبح جماح الجبهة الوطنية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية. غير أنّ ما لم يقله الخطاب السياسي الرسمي أن موجة اليمين، بشقّيه، وسط اليمين أو أقصاه، كانت مُقبلة، بلا شكّ، في ظلّ تراجع اليسار، كما أشير سابقاً. كانت ردّة فعل الرئيس الفرنسي، ماكرون، الدعوة إلى انتخابات تشريعية مُبكّرة. كان يحتاج إلى مثل هذه النتيجة القاسية حتّى يدرك أنّ بلاده تجرفها مياه اليمين المُتطرّف. لا يُعدّ ماكرون اشتراكياً أو يسارياً، فهو ابن اليمين البراغماتي، الذي ظلّ يصارع لإيجاد بديل خارج تلك التصنيفات الكلاسيكية؛ يسار/ يمين.
سيكون المهاجرون، وتحديداً، العرب والمسلمين، من أكثر المتضرّرين من صعود اليمين الأوروبي، فضلاً عن المواقف السياسية، التي ستُبديها هذه البلدان، منفردة أو في نطاق أوروبي، من مختلف القضايا العربية، ومن أكثرها أهمّية القضية الفلسطينية. غير أنّ هذه الكتلة السياسية الاقتصادية تشقّها خلافات حادّة، ما سيجعل مواقف بعض البلدان أكثر براغماتية، وهي مضطرة إلى أن تعيد حساباتها، حين تكون مصالحها في المحكّ. يبدو الخلاف الفرنسي الإيطالي، من جهة، وتباين بعض البلدان الأخرى في مواقفها الدبلوماسية على غرار الموقف من القضية الفلسطينية، مثل إسبانيا وغيرها، من جهة أخرى، مؤشّراً إلى أنّ اليمين سيعاني معضلاتٍ قد لا تكون في الحسبان.