في تجربة عزمي بشارة البرلمانية

01 ابريل 2017
+ الخط -
تشكل تجربة المفكر العربي، عزمي بشارة، في الكنيست الإسرائيلي، والتي امتدت نحو عقد، قبل اضطراره للخروج إلى المنفى القسري، في مارس/ آذار 2007، حالة استثنائية في العمل البرلماني للأحزاب العربية في الداخل الفلسطيني، لكونها كسرت، منذ بدايتها، وفقاً للمشروع والبرنامج الانتخابي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي قاده بشارة حتى خروجه، كل "المسلمات" وأسس العمل التقليدي السياسي للفلسطينيين في الداخل، وتحدت، في الوقت نفسه، جوهر الدولة الإسرائيلية وتعريفها ذاتها دولة يهودية وفق نصوص وثيقة الاستقلال التي أعلنها بن غوريون عام 1948.
وعليه، لا يمكن تفسير شيفرات تجربة بشارة البرلمانية وفكها، أو هذا الغضب الذي أثاره في نفوس النخب الإسرائيلية اليسارية الليبرالية، والأصح، التي تدّعي أنها يسارية وليبرالية، بدون الخوض في العنوان الرئيس لهذا التحدّي الذي رفعه بشارة ضمن منظومة فكرية سياسية تحت عنوان "دولة المواطنين" الذي قوّض عملياً مع مجرد طرحه، كبرنامج سياسي حزبي، وليس مجرد إنتاج فكري أو فلسفي مجرد، كل مزاعم الصهيونية بشأن "ديمقراطية إسرائيل"، ولكن وبالأساس لأن هذا البرنامج، وما تبعه من أداء برلماني، متماسك، سواء في شقه السياسي الشامل، هزّ إسرائيل وضرب ثقتها وثقة نخبها "اليسارية الليبرالية"، وفق تصورها لنفسها بما كانت تظنه أمراً مسلماً به، وهو اعتبارها دولة يهودية تحظى باعتراف بهويتها اليهودية، ليأتي طرح بشارة، المدموج بأداء تطبيقي، على محك العمل السياسي، وينسف ذلك كله، مثيراً جدلا واسعاً في إسرائيل ومراكز أبحاثها حول صحة هذه الثقة بـ"يهودية الدولة" ومصداقيتها.
وظل هذا الطرح الأساسي والفكري، مع ما حمله من تحدّ واضح، العامل الأساسي والمحرّك الرئيسي، في سعي المؤسسة الإسرائيلية السياسية والأمنية، في حربها ضد عزمي بشارة، حتى قبل بدء حياكة وتلفيق الملف الأمني له في 2006، بعد زيارته لبنان ووقوفه إلى جانب حق الشعب اللبناني في مقاومة الاحتلال إبّان عدوان تموز 2006.
ويمكن عملياً، في هذا الاتجاه، التذكير بأن مسألة يهودية الدولة والاعتراض من نائب فلسطيني من الداخل عليها، في وقتٍ كانت دول عربية قد أقرّت بها ضمناً في اتفاقيات سلام مع
 إسرائيل، وتبعتها منظمة التحرير الفلسطينية في إعلان المبادئ في أوسلو، شكلت من المنظور الصهيوني، أمراً استراتيجياً، واعتبرت كل اعتراض عليه أو تشكيك به خطراً داهماً، وهو ما برز إلى السطح في سياق تجربة عزمي بشارة، منذ الولاية الأولى له في الكنيست، عبر تصريحات أمنية، لا لبس فيها في تحديد مصدر الخطر الاستراتيجي على إسرائيل، أدلى بها رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، عامي أيالون، لصحيفة كل العرب في 1998، وتكرّس هذا الموقف باعتباره الخطر الأكبر، والعامل والدافع الرئيسي للسعي إلى منع بشارة وحزبه من خوض انتخابات الكنيست، في الوثيقة الرسمية التي قدمها جهاز المخابرات العامة للمستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، إلياكيم روبنشتاين، عام 2001. وقام الأخير بإرفاقه لطلب شطب "التجمع"، ومنعه ومنع قائده، بشارة، من خوض الانتخابات  للكنيست السادسة عشرة، لتبرير سبب طلب الشطب. وجاء في الوثيقة التي نشرها موقع "معاريف" في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2002 أن حزب التجمع الوطني الديمقراطي، ورئيسه عزمي بشارة، يسعيان، بشكل مثابر، إلى إلغاء الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، عبر استغلال الحصانة البرلمانية للنائب عزمي بشارة". وكان وقع على هذه الوثيقة، رئيس القسم اليهودي في جهاز الشاباك، المسؤول عن الفلسطينيين في الداخل.
ويضيف مسؤول "الشاباك" في وثيقته هذه: إن قائد "التجمع الوطني"، النائب بشارة يدعو الفلسطينيين (مع اندلاع الانتفاضة الثانية)، إلى تبني استراتيجية نضالٍ طويل الأمد ضد إسرائيل، بغية تفكيك وحدتها الداخلية، وكسر قوة صمود المجتمع الإسرائيلي، على غرار الاستراتيجية التي اعتمدتها المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، والتي أدت، بحسب اعتقاده (المقصود عزمي بشارة) إلى شرخ في موقف الرأي العام الإسرائيلي، قاد، في نهاية المطاف، إلى انسحابها من لبنان".
لكن التحديات التي فرضها بشارة، ووضع إسرائيل عليها، لم تقف عند التداعيات المترتبة على الموقف الفكري، بل تعدّت ذلك، وهو ما ميّز تجربته عن غيره، إلى ترجمة كل هذه الطروحات على أرض الواقع في العمل السياسي اليومي، على شكل اقتراحات قوانين، كانت تصب كلها في تفكيك البنية العنصرية لمجمل القوانين الإسرائيلية، وجوهر هذه القوانين وفلسفتها باتجاه نزع وإلغاء الامتيازات الممنوحة للإسرائيليين من مجرد كونهم يهوداً، وهو ما أثبت، وفق طروحات بشارة، زيف الليبرالية، والديمقراطية الإسرائيلية التي يحملها اليسار قبل اليمين في إسرائيل. وأدخل الأول في مأزقٍ أفقده أيضا كل محاولاته للتسلح بقيم أخلاقية إنسانية عليا، جاء فكر بشارة وأداؤه على أرض الواقع في اقتراحات القوانين التي عارضها اليسار الإسرائيلي، ليؤكد أن ممارسة اليسار في إسرائيل تلتقي في المحصلة بالجذور والطبيعة العنصرية للحركة الصهيونية، وأنه لا يمكن أن تكون ليبرالياً، أو حامل قيم إنسانية في المساواة، ما دمت تصوّت، في نهاية المطاف، ضد قوانين المساواة المدنية والمساواة في حقوق الإنسان الأساسية، والدعوة إلى دولة قومية في وطنٍ تخصص فيه مرتبة أدنى للشعب الأصيل، صاحب الأرض.
ولم يكن لبشارة حامل الفكر القومي العروبي، إلا أن يصطدم، منذ اللحظة الأولى، في تجربته البرلمانية، مع الخطوط الحمراء الإسرائيلية، ليس فقط في شأن الفلسطينيين في الداخل، والتمسّك بهويتهم القومية والوطنية، وبحقهم في أرضهم، وإنما أيضا في خروجه على إسار تقاليد السياسة العربية في الداخل التي كان ولا يزال بعض أقطابها، يعتبرون أن دور الداخل الفلسطيني وأحزابه يجب ألا يتعدى، وإذا شئنا أن نقول "ألا يزاود" على كل حل تقبله القيادة الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير، لا سيما أن "التجمع الوطني" تشكل أصلا كردّ فعل على انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، بعد إعلان "أوسلو"، الذي ترك الباب مشرعاً أمام خيار وحيد أمام الفلسطينيين في الداخل، وهو الانكفاء على الذات أو القبول بالأسرلة وبأن تكون عنصراً مسانداً لمعسكر اليسار الإسرائيلي، وهو ما تجلى، أكثر من غيره، في الموقف المتحفظ كلياً، إن لم يكن معارضاً، كما أبداه بشارة ضد الأوهام العربية والفلسطينية من فرص (واحتمالات) التوصل إلى حل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود براك.
وتنسحب على هذا الموقف المواقف الأخرى التي أعرب عنها بشارة من منصة الكنيست، والتي طاولت عملياً، بشكل مثابر ومحكم، مجمل القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين،
 والتعامل كأحد أبنائها، وليس فقط متضامناً معها، ولا مجرّد مساند كل قرار تتخذه القيادة الفلسطينية، وبرز هذا الموقف بشكل خاص في السنوات التي تلت استشهاد الرئيس ياسر عرفات، والتراجع في مواقف السلطة الفلسطينية في ملفات كثيرة.
لكن تجربة بشارة لا تقف ولا تقتصر على هذا البعد، بل ميزها ربط القضايا السياسية العامة (ملف فلسطين والملفات العربية، كدعم المقاومة في لبنان) بشكل مترابط أيضاً في قضايا فلسطين الداخل، واعتبار هذه القضايا جزءاً ونتيجة حتمية للقضية المركزية، واتباع التمييز والقهر القومي واليومي لجذر المشكلة، ورفض محاولات فصل الداخل الفلسطيني عن الهم العام، عربياً كان أم فلسطينياً.
هذا كله، والتكامل الذي قدمه بشارة، سواء في المواقف السياسية والفكرية، أم في الأداء الفعلي واليومي، في متابعة قضايا الناس، ساهم بشكلٍ لا يمكن التنكّر له، في إيجاد حالة وزخم كبيرين من التعبئة الوطنية لدى عموم الفلسطينيين في الداخل، وإعادة زرع الأمل، وتكريس أن فلسطينيي الداخل ليسوا "مقطوعين من شجرة"، ولا هم "أيتام على موائد اللئام" يستجدون الفتات، كانت لاحقاً عاملاً مسانداً في انفجار هبّة القدس والأقصى في الداخل الفلسطيني في أكتوبر/ تشرين الأول 2000 بعد اقتحام شارون المسجد الأقصى.
أحدثت هذه التجربة إذاً حالة من تكريس الهوية الوطنية وتثبيتها، ولكن أيضاً بسياقها العروبي القومي الذي يرفض اعتبار الدول والبلاد العربية بلاد عدوّ، ولا زيارتها، أمراً يستوجب الحصول على إذنٍ من سلطات إسرائيل. وترجم بشارة ذلك ليس فقط في زياراته التي قام بها للبلدان العربية، وإنما أيضا في تنظيم زيارات أهالي فلسطين، إلى ذويهم من اللاجئين في سورية، بتنسيق مباشر مع الجهات السورية، ورفض أن يكون مفتاح هذه الزيارات أذوناً وتراخيص إسرائيلية، وأثار هذا حفيظة إسرائيل وغضبها، لأنها كانت تريد أن تكون هذه الزيارات بموافقتها، كما حدث، مثلا، في تنظيم وفد من أعضاء كنيست وشخصيات فلسطينية عامة، لزيارة سورية للتعزية بمقتل باسل، نجل الرئيس حافظ الأسد.
رفض بشارة، طوال فترة نيابته، أن يكون، كما تريد إسرائيل، نائباً عربياً، يرى في الكنيست مكان عمل وموقع تشريف، وترجم هذا الرفض، في عزوفه ورفضه أي شكل من الاندماج المشوّه في البرلمان، لأن البرلمان (الكنيست) شكّل له ساحة مواجهة، وبالتالي، ابتعد عن فنون (وبدع) أن يكون عضواً في لجنة الخارجية والأمن، فيما كان نواب عرب سبقوه تفاخروا بمجرد مشاركتهم في جلسة مفتوحة لهذه اللجنة. وينسحب على هذا رفضه، من منطلق فكري أيضا، وبصيرة واضحة، السعي إلى أخذ مناصب "تشريفية" في الكنيست، مثل منصب نائب رئيس للكنيست، حتى لا يكون ذلك تطبيعاً للعمل البرلماني، ولا يتم تحويله إلى أمر طبيعي أو مفهوم بدون محاذير، مع المحافظة على الجوهر المطلوب من التمثيل الفلسطيني في الكنيست، وهو تمثيل أهل البلاد أمام المؤسسة والحكومة، من دون أن يقع في غواية الانخراط بأن يصبح جزءاً من كل برلماني، يشوّه حقيقة الكنيست وجوهره، لتصبح السقف الأقصى الممكن، ما يعني خفض سقف الموقف الفلسطيني في هذا الأداء.
67745495-5CEC-4546-976F-89E479B8630F
نضال محمد وتد
من أسرة "العربي الجديد"