19 سبتمبر 2022
الحبُّ لا يعرف المستحيل
تمرّ هذا العام (2017) ذكرى مرور مائة سنة على زواج الأستاذ الضرير المستنير طه حسين (ولد 1889) من صديقته الفرنسية، سوزان بريستو، بعد أن عاشا قصة حبّ رائعة، استمرت قرابة 60 سنة زوجين لم يفترقا أبداً، وأنجبا ابنتهما أمينة وابنهما مؤنس، وقد سميت قصتهما "الحب المستحيل"، حسب توصيف طه نفسه، إذ كان طه كفيفاً، فإن لم ترض به فتاة مصرية، فكيف قبلت به فتاة فرنسية مثقفة قبل مائة سنة؟ كسرت سوزان كل الحواجز، وخالفت الجميع، ولم تستجب لمعارضة أبويها الزواج منه، ليس لكونه غريباً ومسلماً، بل لكونه كفيفاً، ولكنها استجابت لإرادتها، فقد عرفت أن حبّه لها لا يقل عن حبها له، فردّت على أهلها بحزمٍ، مؤكدة لهم أنها ستتزوج هذا الإنسان الذي خبرت مواهبه، وثقل عقله وأحاسيسه التي منحها لها وحدها..
كان لقاؤهما الأول مصادفةً في مدينة مونبلييه الفرنسية في 1915. ومنذ الدقائق الأولى، شعرت سوزان أن قوّة متدفّقة تضمّهما، فتوالت اللقاءات وتوثقّت عرى صداقتهما.. كانا يمشيان وحدهما تحت الشجر، أو يجلسان في مقهىً يحتسيان القهوة من دون أن يلتفتا إلى العالم، أو يجلسان في مكتبة الجامعة تقرأ له سوزان، أو يمضيان إلى الريفييرا معا في يوم مشمس، أو يجلسان ليحكي أحدهما للآخر أسراره في حجرةٍ تشتعل فيها الشموع. ولأول مرّة، بدأ طه الذي كان يعيش زمنه كله مظلماً يتلمّس النور مع صديقته سوزان. كانا يلتقيان كلّ يوم على مدى سنتين، فتحوّلت الصداقة إلى حبّ قويّ، ومن ثم إلى عشق عارم. ويبدو أن القدر قد قيّضها لتكون إلى جانب رجل كفيفٍ كي تلبي طموحه، وتختبئ وراء عظمته، فمن خلالها انفتح على العالم، وتعلّم اللغات وسمع الموسيقى. وإذا كانت قد انجذبت إلى موهبته، فقد انجذب طه إلى صوتها الدافئ. بقي الاثنان يتواصلان من دون أن يعلن أحدهما حبّه للآخر، إذ كان يخشى أن ترفضه، وأزف ميعاد سفره إلى مصر، بعد أن نال الدكتوراه، فتوادعا وغادر فرنسا، ومنذ لحظة الافتراق، شعر الإثنان بشوقٍ يجتاحهما إلى بعضهما الآخر.
وصل طه إلى مصر، مقرّراً مصارحة سوزان بحبه، فأرسل لها خطاباً، يحكي لها فيه مشاعره
رحل طه حسين في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فكتبت سوزان: "ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدةٍ بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة".
اقترح صديقه المستشرق الفرنسي، جاك بيرك، على سوزان أن تكتب تجربتها مع حبها
كتب لها يقول "أمنعك من أن تكونى حزينة، وآمرك بالابتسام، لا تقولى شيئاً. الآن، تعالى إلى ذراعي. أحبك حتى نهاية الحساب.. أحبك وأنتظرك، ولا أحيا إلا على هذا الانتظار". في إحدى الليالي، كانت سوزان نائمة، فاشار طه إليها، وقال لابنته أمينة: هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانا آخر.
وفي الليلة الأخيرة قبل الرحيل، كتبت واصفةً مشاعرها لحظتئذ: "جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن، وإن كنت هادئة هدوءاً غريبا.. ما أكثر ما كنت أتخيّل هذه اللحظة المرعبة. كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي، فقد جاءت الدموع بعد ذلك، ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث. كان الواحد منا قبل الآخر مجهولا ومتوحداً، كما كنا في بداية طريقنا".
وقالت تتذكّر كلماته الأخيرة في هذه اللحظة، وهو يستعيد ذكريات السنوات العسيرة التى عاشها مناضلا من أجل أفكاره: "أية حماقة؟ هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟" وكتبت سوزان: "أعطنى يدك. قالها لي عند طلبه الزواج مني.. لقد طلبها منى أيضا فى الليلة الأخيرة التي فاضت فيها روحه، وهو بين يدي، ولكني لم أذهب معه".
لعل أهم ما يمكن الوقوف عنده، والتفكير فيه، ما سجله هو نفسه عن نفسه، إذ كتب يحكي قصة شيخ أزهري جاءه ليقول: لو كنت مسؤولا في مصر لقمت بتشريع قانون يحرم على أي مصري يتزوج بفرنسية.. وعاتب طه حسين على فعلته، وطلب تطليقها.. سكت طه حسين، ثم أجابه: اسمع، تزوجتها لأنني أحببتها، وبادلتني المشاعر نفسها، وصنعت مني طه حسين، ولو رضيت بي زوجة مصرية، لكانت حياتي كئيبة، ولسبّبت لها التعاسة".