ضجّة الانقسام في رحيل مظفّر النواب
رحل الشاعر العراقي، مظفر النواب، في الشارقة، ودفن جثمانه في بلده. وثارت موجة من الضجيج بين من جعله عملاقاً لا يُبارى ومن وجدها مناسبة للتعبير عن سخطهِ عليه لأسباب سياسّية وأيديولوجية، ولولا بعض "قصائد" بصوته وصورته لما صدّق أحد أقوالاً لهؤلاء. وقد كان مظفر كلما ألقى مقطعاً كيدياً وجارحاً جوبه بالتصفيق، وغالباً من دون أن يفهم سامعوه "خطورة" ما كان يقول.
التقيت بالرجل مرتين، في دمشق 2001 وفي أبوظبي 2005، وحادثته وحاورته، وهو معروف براديكاليته ودفاعه عن الحرّيات والتقدّمية. أما أدبه، فهو شاعر نجح بمهارة في شعرهِ الشعبي في العراق، لكنّ شعره الفصيح لا يرقى إلى قوة شعراء من رصفائه. كنا نسمع أشعاره الشعبية، ولم أكن أفهم ما يريد قوله، كونه يستخدم مفرداتٍ من لهجة جنوب العراق، فكان يسعفني أصدقاء من هناك، لأعرف ما يقول، وأنا ابن الموصل. وحتى اليوم، من الصعب أن تُفهم لهجات العراق المحلية بين العراقيين، فكيف سيفهم أبناء العربية ما يقول مظفر النواب؟
ليس مقصد هذه المقالة أن تكون عن النواب نفسه، وإنما النظر في الضجّة المثيرة للجدل بانقسام العراقيين إلى من معه ومن في الضدّ منه، ويشكّل انقسام المثقفين العراقيين هذا ظاهرة خطيرة، كما التعبير سياسياً عمّا يريدونه، خصوصاً في مناسبات مثل هذه، وكأنهّم ينتظرون حدثاً معيناً كي يزيدوا من غلوائهم في التعبير مدحاً أو قدحاً، وهو انقسام يعبّر عنه سياسياً وأيديولوجياً، لكنّه اجتماعي وثقافي عميق له تعقيداته المركّبة. وهنا تطرح ملاحظاتٌ نقدية توجب التفكير في البحث عن أجوبة لها، وثمّة من يردّد ناصحاً بابتعاد أيّ مثقف ومبدع عن التخندق السياسي واستحضار التاريخ على طريقته لأنّه في هذا يؤذي مجتمعه. لكنّ النصيحة لن تجدي نفعاً، فالسياسة مستنقع آسن، يجد المثقف، وحتى المبدع، بضاعته فيه، أكان مع التيار أم يعوم ضدّه.
لم يكن الناس يدرون أنّ مظفر النواب التقى صدّام حسين، الذي منحه جواز سفر خلال 48 ساعة من طلبهِ
نشرت جملة هائلة من المعلومات بعيْد رحيل الرجل، توجب التحرّي عنها، فلم تكن معروفة، ولم يكتبها أصحابها في حياته، فلماذا تنشر اليوم بعد ساعات من دفنه؟ وقد أحدث استقبال جثمانه وتشييعه حكومياً في بغداد موجة صاخبة إعلامياً وسياسياً، وقد دهش بعض من المثقفين من كلّ هذه الحفاوة الحكومية التي استقبل بها جثمان الفقيد، والتشييع الرسمي الذي لم تفعل مثله الحكومة الحالية عند وفاة أدباء وعلماء ومثقفين مبدعين عراقيين كبار، ما أثار موجة اتهامات وردود فعل مضادّة.
لم يكن الناس يدرون أنّ مظفر النواب التقى صدّام حسين، الذي منحه جواز سفر خلال 48 ساعة من طلبهِ، إثر الإفراج عنه من السجن الذي اعتقل فيه عام 1969، وكان للشاعر الوزير شفيق الكمالي فضلٌ في الإفراج عنه ولقائه بالسيد النائب وقت ذاك، كما كانوا يطلقون على صدّام. ثم غادر مظفر العراق بعد رفضه أيّ منصب دبلوماسي عرض عليه، وبدأ حملته ضد النظام السابق، بمعنى أنّ الرجل لم يشتره النظام السابق.
ربما يختلف معه كثيرون بسبب مواقفه السياسية أو استخدامه لغة نابية فظّة وألفاظاً بذيئة وجارحة، لكن هناك من يعتقدون أنّ السبب الحقيقي وراء هذه الموجة الصاخبة ضدّه أبيات من شعرهِ، أعلن فيها، ضمن قصيدته "وتريات ليلية"، استخفافه بزوجات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وتهكّمه بـ"الردّة تخلع ثوب الأفعى" بالخليفة عثمان بن عفان، وعورة "ابن العاص" و"سوءة الشورى"، كما وصفها. وتسميته نفسه القرمطي، وتعبيره "وللقرمطية كلّ انتمائي" وغيرها. وقد أحرقت نعوته هذه التي اختارها، عن قصد وسبق إصرار، رصيده الشعري والسياسي في مجتمعاتٍ عربيةٍ كاملة، تأتي من مبدع مثقف وشاعر شهير، وليس من رجل دين طائفي مسعور. فضلاً عن صمتهِ عمّا جرى في العراق من مجازر حدثت بعد 2003 بحجّة المرض والشيخوخة.
لم تسمع من مظفر أيّ إدانة شعرية للاحتلالين الأميركي والإيراني، في حين عُرف الرجل بصلابتهِ ضد الاستعمار وكلّ أعوانه الخونة
ويضاف إليها عدم إدانته القتلة المجرمين والمليشيات القذرة التي قتلت مئات من الشباب العراقيين المتظاهرين. كما لم تسمع منه أيّ إدانة شعرية للاحتلالين الأميركي والإيراني، في حين عرف الرجل بصلابتهِ ضد الاستعمار وكلّ أعوانه الخونة، وكان مناضلاً حقيقياً في السجون التي أنزلوه فيها، ومنها "نقرة السلمان" الصحراوي، أو بقاؤه محكوماً بالإعدام في سجن الحلة قبل حفره، مع سجناء مثله، نفقاً، والهرب إلى الحرية، فراراً من أحكام الإعدام، فهرب وجرت ملاحقتهُ من بلد إلى آخر، حتى استقر في سورية. فضلاً عن غرابة التناقض بين من سفّه وجودهم من "الأعراب" في الجزيرة العربية والخليج العربي، كما سماهم غير مرة، ووجوده محتضناً منهم حتى رحيله في لحظاته الأخيرة. ووصل شتمه العرب صراحة "بين بغداد وجدّة". وثمّة ثوابت على أيّ مبدع المحافظة عليها في حياته، بمثابة خطوط حمراء، فسوف يحرق أوراقه كلّها إن لم يكن اليوم، حيث عواطف الناس معه، لكنّه يسجل نقاط ضعفه أمام الأجيال المقبلة.
ليست المشكلة فقط في شعر مظفر النواب، والحاجة إلى دراسته ونقده بعناية. وقد قال سعدي يوسف عنه إنّه بارع في شعره الشعبي واللغة المحكية، وليس في نثره الشعري بالفصحى، مع استخدامه المفردات الجارحة والتوصيفات المبتذلة التي روّجها بمتعة، حتى في الأوساط العربية، وإنّما المشكلة في الانقسام الثقافي العراقي اليوم، ذلك أنّ مؤيديه وعشّاقه لا يعترفون بأنّ دور مظفر النواب المبدع انتهى مع عام 2003، ولم يعترفوا بأنّه لازم الصمت على ما حدث من فجائع في العراق، مقارنة بمعارضيهِ ومنتقديه الذين يدينون عليه صمته، ويتهمونه بأسوأ الصفات، ويسقطون ذلك على نضاله وصفحات حياته، بل واتهامه أيضاً باتهاماتٍ شتى، في مقدّمتها "الطائفية"، وقد منحهم بنفسه أسانيد على ذلك بصوته وصورته في لحظة خاطئة، استحضر فيها التاريخ متمايزاً من دون مراعاة مشاعر الملايين.
أتمنّى مخلصاً أن تهدأ مشاعر كلّ الأطراف، احتراماً للرجل، وقد رحل عنّا، والتعامل مع إشكالاتٍ كهذه بهدوء وحكمة.