بشار الجعفري ودبلوماسية البلطجة

19 ديسمبر 2017
+ الخط -
في جولة جنيف (التفاوضية السورية) الثامنة التي زاد امتدادها على العشرين يوماً؛ حضر رئيس وفد النظام منها بضع ساعاتٍ، أمضاها صمتاً ثم نطق كفراً بالمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، وبمن أرسله وبمن أتى لـ "مفاوضتهم"، والأكثر بأهل سورية الذين طالما تحدث باسمهم زوراً وبهتانا. كان نطقه نسخةً وترجمة لسبع سنين من الانفصام عن الواقع وتزييفه. وكما البلطجة والإجرام بحق سورية وشعبها طوال تلك السنين، كانت سرديته كذلك، لا بشهادتنا، بل بشهادة معظم من سمعه. ما ميّز أداءه في أثناء هذه الجولة هو ارتفاع منسوب التوتر والصفاقة والفُجر والتحدّي، حتى للأمم المتحدة ومبعوثها؛ وكأنه كان على علم بالتصريحات الوقحة البلطجية لزميله الروسي في الأمم المتحدة، وشروطه الخمسة "للحل السياسي" في منتجع سوتشي.
كان في وسع بشار الجعفري توسيع طيف الحديث "الوطني" الذي طالما سطا عليه واستخدمه "متحدثا باسم سورية"؛ وأن يضيّق من /الشخصنة/ التي ادّعى، في مرافعته، أنه لا يستخدمها؛ إلا أنه أثبت حِرَفيّته ومهنيته ردّاحا شتاما كذوبا. فحتى اللحظة، وعلى الرغم من ثماني جولات في جنيف للبحث في حل سلمي لسورية، ما زال الجعفري يتمترس عند تسمية مَن يقول "لا لمنظومة الاستبداد" التي يمثلها بـ "المجموعات الإرهابية المسلحة"؛ وإن أراد أن يكون ناعماً
ودبلوماسياً يدعوهم "عملاء مأجورين ومشغّلين من الخارج". حقيقة لا بأس بذلك؛ فإن كان سيده على هذه الدرجة من الانفصام عن الواقع، فلا عتب إن نطق زوُراً كلما تنفس.
لا حاجة للتذكير بأنه مع كل استحقاق سياسي، ومع كل جولة مفاوضات، يوقت "النظام" الذي يمثله الجعفري بفعل إرهابي، لكي يبعد اهتمام العالم عن الاستحقاق ذاته. ولكن الجعفري، في جولة جنيف هذه بالذات، ألبس ذلك الفعل للمعارضة ذاتها بأنها هي التي توقّت الاستحقاق بفعل إرهابي، مستعيراً خطابها الصادق، كي يلبسها فعل نظامه.
لم يكترث الجعفري لتوثيقات الأمم المتحدة التي تسجّل رسمياً كل وثيقة تُقدَّم إليها، فتحدّاها بكل فجور، قائلاً إنه سلّمها ثلاثأ وعشرين وثيقة. ذلك ممكن، إن كان الجعفري يعتبر تلك الورقة المأخوذة من "كتاب القومية" للمرحلة الإعدادية وثيقة؛ وإن كان يعتبر الاثنين وعشرين تأنيباً وتوبيخاً للمبعوث الأممي وثائق للعملية السلمية.
عندما يقول بشار الجعفري إنه "لا يريد لمسار جنيف أن يفشل"، فإنه محقّ؛ لأنه لا يريده أن يفشل، بل أن يُلغى من الوجود، كما تمنى أو أراد معلمه، وليد المعلم، أن يلغي أوروبا من الخريطة العالمية. ومعروفٌ أن نظام الجعفري ما ترك حجةً أو ذريعة كي لا يأتي إلى جنيف؛ فمنبر "نيويورك" بيئة أفضل لتسويق سرديات الادّعاء والتزييف بوجود المندوب الروسي صاحب الشروط الخمسة والأحد عشر فيتو. هناك، يمكنه، بكل بلطجية، أن "يحدّد ولاية المبعوث الدولي"، كما جاء في تصريحاته في جنيف. هناك ربما، وبوجود البلطجية الروسية، يمكن أن يكون شريكاً لروسيا بعضويتها الدائمة في مجلس الأمن.
عندما يقول الجعفري إنه "لا عواطف ولا مشاعر في السياسة"، كان يحاضر على العالم، كما حاضر على المبعوث دي ميستورا في الجغرافيا السورية في قاعة المفاوضات؛ وسجلها أحد مرافقيه بكل صفاقة ووقاحة وتحدٍّ للأمم المتحدة. حقيقة كان على الجعفري، لو كان للصدق مكان في حياته، أن يضيف، إلى "لاءاته"، "لا مشاعر ولا عواطف"، لا صدق، لا أدب، لا احترام، لا إنسانية...؛ وبذا يعكس تماماً صورة "النظام" الذي يمثل وسلوكه ومنهجيته. ومن غير المستغرب أن يبوح الجعفري بذلك يوماً؛ ولكن الأمل يبقى ضعيفا جداً.
أخيراً، وليس آخراً. منذ البداية، أراد الجعفري، ومن يمثل، أن يفصّل لهم العالم معارضةً كما يرغبون وكما يشتهون. وآخر طلب لهم كان أن يفاوضوا وفد معارضة واحداً. فكان لهم ما أرادوا. لكن حجتهم الآن أن البيان الذي أخرجته وتبنته المعارضة الواحدة يجب أن يُسحَب؛ ويجب ألا يكون فيه ذكرٌ لسيده. واضحٌ أن الجعفري، ومن خلفه زميله الروسي في نيويورك، لا يريدان سحب البيان، بل سحب واستئصال كل من يقول لا للأسد ومنظومته الإجرامية. ولكن هذين الشخصين لا يعلمان أنه لو سُحبَت رقبتاهما ورقبة الذي يدافعان عنه؛ لن يُسحَب ذلك البيان؛ لأنه منسجمٌ مع القرارات الدولية، ومع إرادة شعب سورية. يكفي المندوب الروسي أن يتذكّر أن بلده قالت إن السوريين يقرّرون مصير بلدهم، والآن يشترط عدم بحث مصير بشار الأسد.

ما أرادت منظومة الاستبداد التي يمثلها الجعفري، ولا آمنت، يوماً بحل سلمي للقضية السورية؛ ولا تزال تتمترس مع إيران ومليشياتها عند شعار "أحكمها أو أدمرها"، حتى لو استلزم ذلك استدعاء احتلال أجنبي لسورية، وبيعها بالرخيص في مقابل كرسي الدم. وهذا ما بات يعرفه السوريون والعالم.
ما حدث في "جنيف 8" كان فضحاً وكشفاً، لا للمنظومة التي يمثلها الجعفري فقط، بل لروسيا المحتلة لسورية؛ وهو برسم الشعب السوري الذي لا يعبأ به، أو له، نظام فاشي قتل شعباً وشرّده ودمر بلداً عندما طلب جرعةً من الحرية. ما حدث في جنيف برسم روسيا التي انكشفت تماماً منظومة دكتاتورية محتلة. إنه برسم الأمم المتحدة التي يمرّغها الجعفري بالتراب. عملياً، لا ندري كيف تسمح هذه الأمم المتحدة بدخول مخلوقٍ كهذا إلى مبناها؛ وهو لا يزال يرافع عن قتل نصف مليون سوري ودمار نصف بلد وبيعه للاحتلال!
92AD2EDD-95F3-4538-A08E-89A6AF44B3D2
92AD2EDD-95F3-4538-A08E-89A6AF44B3D2
يحيى العريضي

كاتب وإعلامي سوري، مستشار الهيئة العليا للمفاوضات، دكتوراة في الإعلام من جامعة جورج تاون

يحيى العريضي