ضعف الحوار الوطني وتباين الانقسام في ليبيا

11 سبتمبر 2016

من جلسات الحوار السياسي الليبي في تونس (5/9/2016 /الأناضول)

+ الخط -
في ظل حالة من الجمود السياسي، انعقدت جلسات "الحوار السياسي" الليبي في تونس، تحت جدول أعمال رئيسي، يتناول المشكلات التي تواجه تنفيذ اتفاق الصخيرات، بعد مرور تسعة أشهر على توقيعه، فعلى الرغم من انقضاء هذه الفترة، لم تتبلور الأركان الأساسية للدولة، وظهرت منازعات على غالبية الملفات الانتقالية، شملت إعاقة تشكيل الحكومة وتجنب تعديل الإعلان الدستوري وتزايد الغموض حول مصير مشروع الدستور، ومن ثم، تمثل نتائج "الحوار السياسي" مؤشراً مهماً على مدى قدرة السياسة في ليبيا على إنجاز المهام الانتقالية.
وبشكل عام، واجه جلسات لجنة الحوار السياسي الليبي في تونس مطلع سبتمبر/ أيلول الجاري تحدي الحفاظ على اتفاق الصخيرات، ليكون ركيزة للسياسة في ليبيا، فقد واجه الاتفاق انتقادات شديدة ومطالب بتغييره أو تعديله، ولعل استمرار الخلاف حول منصب وزارة الدفاع يشكّل معضلة وتحدياً لتماسك "المجلس الرئاسي"، كما أن آخر قرارين لمجلس النواب ورئيسه هي محاولة لنزع مشروعية "الرئاسي"؛ حيث رفض منح الثقة للحكومة، وإعادة تشكيل وفد المجلس للجنة "الحوار"، كانت بمثابة إجراءات تهدف إلى إطاحة الترتيبات القانونية القائمة لدخول البلاد في فراغ دستوري.

عسكرة برقة
يشكّل قرار رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، (19 /6/ 2016) إعلان المنطقة من درنة شرقاً وحتى بن جواد غرباً منطقة عسكرية نقلة جديدة في تصعيد الأزمة السياسية، فبمقتضى هذا القرار يتم تعطيل المؤسسات المدنية وحلها وإخضاعها للرقابة العسكرية، ولم يقتصر ذلك على عسكرة المجالس البلدية، وإنما تعطيل المؤسسة الوطنية للنفط ووقف تصديره، وتبدو المخاطر الأساسية من جرّاء هذه الخطوة ماثلةً في السعي إلى قطع الطريق على اتفاق الصخيرات، ودعم المشروع العسكري لخليفة حفتر والجهات الداعمة له.
ويمكن النظر لقرار عقيلة صالح على أنه محاولة لإعادة تغيير قواعد المسار السياسي، لكن توجهاته، من وجهة أخرى، تحمل في ثناياها بعض التناقضات، لا تقتصر فقط على تعزيز انقسامات مجلس النواب، لكنها تفرض الصراع المسلح حلاً وحيداً للأزمة السياسية.
وبعد إعلان الأحكام العرفية في الشرق الليبي، صارت الخريطة السياسية تتشكل بطريقة معقدة، تبرز فيها التناقضات الداخلية والخارجية، فكما يحدث تحولٌ نحو عسكرة الكيانات السياسية والإدارية والانقسامات القبلية، يحدث، في الوقت نفسه، توسيع نطاق التحالف بين مصر و"الحكومة الليبية المؤقتة"، وهو ما يساعد على تشكيل إطار للحكم، يختلف في خصائصه ومقوماته عن الترتيبات الحكومية في غربي ليبيا، ما يضع الدولة أمام خياراتٍ حديةٍ واستراتيجية؛ تقع ما بين الانقسام والفيدرالية.

مصالحات غرب ليبيا
وفيما يتزايد الخلاف حول عسكرة بلديات بنغازي وإجدابيا في الشرق، وحصار حي قنفودة (بنغازي) وتصنيف سكانه أسرى حرب، تتجه بلديات الساحل الغربي والجبل (12 مجلساً بلدياً) لتعزيز اتفاقيات المصالحة الوطنية تحت شعار (ترابط، تسامح، سلام)، وقد شمل الاجتماع (صبراتة، أغسطس/ آب 2016) مشاركة الزنتان، وهو ما يعكس تحولاً في مسار الصراع في المنطقة الغربية واستقرار مسار المصالحة.
ومن جهته، يخلص حزب العدالة والبناء إلى أن مسار "الاتفاق السياسي"، على الرغم من
صعوبته، يظل الإطار الملائم لتسوية سلمية للأزمة في ليبيا تشمل كل الليبيين، واعتبر رئيس الحزب، محمد صوان، أنه على الرغم من فشل المحاولات الانقلابية في 2014 لإطاحة ثورة فبراير، حدث تحول للصراع، حيث لم يعد صراعاً مع "ثورة مضادة"، بقدر ما تحول إلى صراع مسلح، يدور في سياق تعقيدات اجتماعية وتعدّد المكونات المسلحة، حيث لا يستطيع أي طرف حسم المعركة، ما يدفع باتجاه صراع مفتوح. ولذلك، يخلص إلى أن الخروج من الحلقة المفرغة يكون بتفعيل الاتفاق السياسي واضطلاع كل المؤسسات بمسؤولياتها.
ويمثل الإفراج عن سليمان زوبي (عضو المؤتمر الوطني)، بعد خطفة واحتجازه عامين، مؤشراً للتهدئة في المنطقة الغربية، وهو قرار يتزامن مع الحديث عن مساعي "الحكومة المؤقتة" إلى وقف الملاحقة الدولية لأنصار النظام السابق، وثمّة جدل أن هذه التسويات تقود إلى مصالحات استراتيجية وتؤسس لها، حيث ظلت المحاكمات واحتجاز السياسيين واحدةً من المعضلات التي غذت الصراع المسلح، خلال السنوات الماضية، غير أنه من الصعوبة قراءة تداعياتها بمعزل عن الصراع فيما بين الحكومات الليبية.

صراع البرلمان والرئاسي
لعل انقسام مجلس النواب بين تأييد حكومتي "المؤقتة" و"الوفاق" يمثل واحداً من التداعيات الخطيرة على إمكانية تحقيق الفترة الانتقالية أهدافها، فالبرلمان كسلطة انتقالية، سواء وفق مقررات لجنة فبراير 2014 أو في إطار الاتفاق السياسي، لا يتمكّن من مباشرة سلطاته في ظل هذه الانقسامات، فمنذ يناير/ كانون الثاني 2016 ، كان انعقاد جلسات البرلمان محفوفاً بالجدل حول مشروعية انعقادها بسبب اكتمال النصاب القانوني، أو منع انعقادها وإغلاق مقر المجلس، وكانت الجلسة المنعقدة في (22‏/08‏/2016) مثار جدل دستوري حول سلامة انعقادها وصحة القرارات الصادرة عنها، فهي إخفاقٌ عقّد جلسات سابقة عديدة. ولكن، على نحو مفاجئ، تناولت الجلسة الأخيرة التصويت على الثقة في حكومة الوفاق، فهي لم تكن جلسةً عادية، حيث تصدّت لحكومة الوفاق، واعتبرتها غير مشروعة، ما أثار الخلافات حول مرجعية الاتفاق السياسي.
وتؤكد رسالة عقيلة صالح إلى الأمين العام للأمم المتحدة ( 22 أغسطس/ آب 2016) على جانبين؛ الأول، أنه لا توجد حكومة تمت مسمى "الوفاق الوطني" أو المجلس الرئاسي الذي يمثل إطارها التنفيذي. والثاني، إذ أشار إلى أنه، مع احترام القرارات الدولية، يظل العمل إطار التشريعات الداخلية يمثل الأولوية، وبشكل عام تعكس الرسالة توجهاً مباشراً لإلغاء اتفاق الصخيرات، سواء بإضعاف "لجنة الحوار" أو بإنهاك "المجلس الرئاسي".
وفي هذا السياق، يحاول رئيس مجلس النواب تكوين تحالفات قبلية ومع دول إقليم الساحل، وكان من اللافت اللقاءات التي عقدها مع ممثلين عن "المجلس الأعلى لمشايخ وأعيان قبائل التبو" في أغسطس/ آب 2016 وممثلين عن "التبو" لعدد من مدن ليبيا، كان أهمها؛ بنغازي وأجدابيا والكفرة والبيضاء، وهو توجه يحمل، في طياته، مساع إلى تعميق الصراع الاجتماعي، ليس فقط مع مكونات المنطقة الغربية، ولكن أيضاً مع قبائل الشرق الليبي، ويتسق اتجاه صالح مع توجهات "تحالف القوى الوطنية"، حيث يميل إلى طرح مسار آخر لـ"الحوار الوطني"، يتجنب فكرة الحصص والتمثيل الجهوي، ويخلص (التحالف) إلى أن إطار "الصخيرات" فشل في تحقيق أهدافه، ولم تترتب عليه مؤسسات فاعلة.
وعلى الرغم من حدة الأزمة، قبل "المجلس الرئاسي" التعامل مع مجلس النواب، واتجه إلى
استكمال مجلس الوزراء وتقديمه للبرلمان مرة أخرى، ويمكن ملاحظة أن "الرئاسي" بدأ العمل على ثلاثة مسارات؛ تجنب الصدام مع مجلس النواب، وإعلان دعمه المباشر عملية البنيان المرصوص، وأخيراً التواصل مع الأطراف الدولية للتأكيد على أنه الحكومة الشرعية في ليبيا. وقد أبدى رئيس هذه الحكومة، فايز السراج، مرونة في التعامل مع قرار مجلس النواب بحجب الثقة عن الحكومة، ولم يتصدّ لمشروعية انعقاد الجلسة، لكنه ركز على ضرورة انعقاده مرة أخرى لأجل عرض الحكومة بعد استكمالها.
ويبدو أن هذه السياسة ساهمت في تخفيف حدة الخلاف مع "النواب"، وتجنبت محاولات مناقشة مدى شرعية الترتيبات اللاحقة لاتفاق الصخيرات، وهو ما يشير إلى قدرة المجلس الرئاسي على احتواء الصدمات الناتجة عن الأزمة، أو محاولات تأزيم المسار السياسي وإطاحته. ويمكن القول إن مثل هذا التصرف ساهم في تعضيد وضع "الاتفاق السياسي". وبالتالي، تجنب إثارة الجدل حول شرعية "الرئاسي"، ولعل هذه الخطوة تعزّزت بخطوتين مهمتين؛ الإعلان عن المساندة المباشرة لعملية "البنيان المرصوص"، والبدء في تشكيل "الحرس الرئاسي"، ما يساهم في امتلاك زمام المبادرة.

تشابك التدخل الدولي
لم تقف حكومة الوفاق عند مستوى انتقاد ورفض التدخل الفرنسي الذي انكشف بشكل واسع في المنطقة الشرقية، لكنها طلبت من الولايات المتحدة التدخل العسكري المباشر في المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وجاء الطلب استناداً لتقييم غرفة عمليات "البنيان المرصوص" في سرت، ما يشير إلى عدم القدرة على حسم المعارك، في ظل ثلاثة عوامل مهمة؛ حظر التسلح ونقص الإمدادات، وظهور مؤشرات على التوتر العسكري في طرابلس وضواحيها، وهي عوامل صارت تشكل تهديداً مباشراً للمجلس الرئاسي.
وهنا، يمكن تفسير سياسة حكومة الوفاق بأنها لا تقتصر فقط على تخفيف أثر حظر السلاح، ولكنها تعكس رغبتها في موازنة التطلعات الفرنسية للسيطرة على ملف الأزمة في ليبيا، والاستفادة من هامش اختلاف السياستين؛ الأميركية والفرنسية تجاه تسوية المسار السياسي.
لكن الدلالة الأكثر أهميةً تكمن في أن الضربات الجوية الأميركية لا تصب مباشرةً في تمكين حكومة السراج، وتعزّز سياسة حظر السلاح. وفي هذا السياق، لا تنهض الوعود الإيطالية والبريطانية على إحداث تقدم ملموس في بناء الجيش الليبي أو الأجهزة الأمنية، فعلى الرغم من مرور ثمانية أشهر على تشكيل "المجلس الرئاسي"، لم تتلقّ حكومة الوفاق مساعدات فعلية تمكّنها من تكوين البنية العسكرية الأساسية.
وعلى الرغم من وضوح المشاركة الفرنسية في معارك بنغازي، اعتبر حفتر أن التدخل الأميركي في سرت لا يستند لأساس قانوني، وهو انتقادٌ يرجع إلى التنازع مع حكومة الوفاق على شرعية إدارة الدولة والاضطلاع بالشؤون العسكرية، لكنه، بشكل عام، يعكس إخفاق "الحكومة المؤقتة" (البيضاء) في نقل المعارك إلى وسط ليبيا، كما يثير، في الوقت نفسه، ترابط بعض مؤيديها بـ"داعش"
وبعد زيارة السفير البريطاني مجلس النواب (2016/08/18)، ولقائه عسكريين يمثلون
"القيادة العامة للجيش الليبي"، ظهرت صيغ جديد لتسوية الأزمة السياسية، كانت الصيغة الإيطالية ـ الأميركية التعبير المباشر عن التصور الجديد، والذي يتبنى التسوية عبر حوار بين السراج وحفتر، وهي صيغة تمهد الطريق إلى تداعيات جديدة، من شأنها وقف اتفاق الصخيرات أو تعطيله، قد لا يكون هناك تنسيق في السياسات، لكن هذه الصياغات تعكس القراءة المشتركة (الأوروبية ـ الأميركية) تجاه ليبيا، والتي تقوم على احتواء الأطراف غير المختلفة أيديولوجياً وإدماجها في الدولة، فعلى الرغم من القلق من ضعف إنجازات حفتر وتركيزه على الحلول المسلحة، ظلت السياسات الغربية تعتبره طرفاً مهماً في الحل السياسي.
وعلى الرغم من مساندة الولايات المتحدة حكومة الوفاق، ونجاح "البنيان المرصوص" ضد "داعش" في سرت، لم تبتكر المجموعة الدولية نمطاً مختلفاً لتسوية الصراع في ليبيا، فقد أعلنت الولايات المتحدة وإيطاليا عن التفكير في مبادرٍة تجمع كلاً من فايز السراج وخليفة حفتر، ما يشير إلى اختزال المشكلة السياسية بين طرفين، في حين أنها متعدّدة ومتنوعة الأطراف. وهنا، يتضح هدف المبادرة في بناء جسر بين السراج وحفتر، ما يجعلها مشكلة بين طرفين، ما يطرح احتمالات إعادة النظر في المسار السياسي.
ويقوم التفكير في المبادرة على قبول حفتر الاتفاق السياسي وحكومة الوفاق، فيما كان من الواضح اعتراض البرلمان على الاتفاق، والسعي إلى تعديل المواد المتعلقة بالجيش. وأيضاً إعلان حفتر أنه خارج اتفاق الصخيرات، حيث يمكن قراءة المنظورين، الأميركي والإيطالي، أنه يكشف أن الاتفاق ليس صيغة نهائية ومفتوحة للتعديل، على الرغم من استناده لقرارات مجلس الأمن ووقوعه تحت رعاية البعثة الأممية، وهذا ما يضعف الثقة في كل المسارات التي تتصدى للأزمة الليبية.

ارتباك الحوار الوطني
خرجت توصيات "لجنة الحوار المصغرة" (جزء من لجنة الحوار الوطني)، على الرغم من أهميتها، تبدو في طبيعتها قيوداً على الحل السياسي، بتسوية الخلافات في "المجلس الرئاسي" والنظر في تقليص عدد أعضائه، وكما تفتح الباب أمام إجراء تعديلات على "الاتفاق السياسي"، فإن هذا التوجه يثير التساؤل عن المعضلات الحقيقية والظاهرية التي تواجه المسار السياسي. ويمكن القول إن العلة الأساسية ليست في عدد أعضاء "الرئاسي"، لكنها في تنافر المؤسسات الانتقالية، ففي الفترة الأخيرة، برز نزاع حول شرعية "مجلس الدولة"، بعد ظهور الدعوة إلى تشكيل "جسم تشريعي" مناظر في شرق ليبيا، وبالتالي، تبدو القضية الأساسية في ابتكار إطار للخروج من المؤسسات المنقسمة.
وبعد النتائج المحدودة للحوار في تونس، يمكن النظر إلى السلطة في ليبيا، بأنها، منذ توقيع اتفاق الصخيرات، تنحدر بشكل متسارع نحو التفكك، ما يتطلب إعادة بنائها مرة أخرى، فالجدل الحالي هو حزمة من النزاعات بين السلطات المجزأة. وليس متوقعاً أن الاستمرار في هذا المسار يساعد على الخروج من الوضع الانتقالي. ولذلك، تبدو الانتخابات واحدةً من المسارات المهمة لتجاوز المشكلات الدستورية والأزمات الاجتماعية. وهذا ما يدفع بالتعامل مع معضلة مشروع الدستور أو الدعوة إلى انتخابات عامة، لتكوين جسم بديل عن المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب، يكون من اختصاصه وضع الدستور وتشكيل حكومة جديدة، خصوصاً بعد تضييق الخناق على "الاتفاق السياسي".
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .