تلك الأرواح الشفافة

16 يوليو 2016

القطط المنزلية أضحت جزءاً من أحاديث السوريين (Getty)

+ الخط -

أوصت سيدة بريطانية تسعينية، قبل سنوات، بأن ترث قطتها ثروتها الطائلة التي كتب يومها أنها أموال سائلة وعقارات! أذكر يومها أن الخبر أثار دهشتي وسخريتي، اعتبرته نوعاً من الجنون البشري الكامن الذي يصل أحياناً إلى مراحل لا تخطر في البال، أو هو فانتازيا سيدةٍ عجوز، تعاني من حالة مقت الجنس البشري. يومها كنت أيضاً من المستهجنين تربية الحيوانات الأليفة في المنازل، أو بالأصح، كانت علاقتي معها علاقة نفور. وفي سورية، لم تكن عادة تربية القطط في المنازل المغلقة الحديثة معتادة. كانت القطط موجودةً في البيوت القديمة التي لها حديقة واسعة، أو ما يسمى بالسوري (أرض ديار) كانت (البسّة) كما يسميها السوريون، وهي على ما يبدو تسمية مأخوذة من (باستيت) إله القطط لدى الفراعنة، تأتي إلى الدار ذات الحديقة الكبيرة، وتأكل من باقي طعام أهل المنزل. لم تكن تدخل إلى داخل البيت، قلة قليلة فقط ممن عرفتهم كان لديهم قطط أو كلاب في داخل منازلهم، كان ذلك نوعاً من أنواع الترف المبالغ فيه، بالنسبة لسوريي الطبقة الوسطى.

لهذا، لم أسمح لابنتي يوماً أن تحضر قطةً إلى المنزل لتعيش معنا. في بداية عام 2011، قرّرت ابنتي أن تستقل وتسكن وحدها، يومها أحضر لها أحد أصدقائها قطةً بيضاء صغيرة جداً. حين زرتها أول مرة بعد وجود القطة، كنت أشعر بنوعٍ من التوجّس. لكن، يوماً بعد يوم، بدأت أعتاد عليها، بعد مدة قصيرة، إثر ترك ابنتي بيتها الذي تعرّض للاقتحام، بسبب تحوله إلى مكانٍ لتجمع نشطاء الثورة. عادت لتسكن معي هي وقطتها، ومن تلك اللحظة، تغيرت علاقتي كلياً مع القطط والحيوانات الأليفة. والحقيقة أن هذا التغير لم يكن خاصاً بي وحدي، بعد اضطرار السوريين للجوء في دول الجوار، وتحول "فيسبوك" إلى ما يشبه منتدىً سوريّاً يجمع السوريين المنتشرين في العالم. كانت القطط المنزلية جزءاً من أحاديثهم وصورهم. في البداية، كان الحديث عنها يشوبه شيء من الخجل، إذ ظل الأمر لبعضهم حديثاً مثيراً للسخرية والاتهام بنسيان ما يحدث في سورية من موتٍ يوميٍّ، لا سيما لأطفالها، على أن ذلك تغيّر بعد فترة قصيرة، كأنما اكتشف السوريون أنهم، في غربتهم، يحتاجون أرواحاً شفافةً ونقيةً تحرس وحدتهم من كوابيس الدم والقتل والعنف البشري.

كان هذا اكتشافي الشخصي أيضاً. أهداني صديق سوري قطة صغيرة بيضاء، لم تبلغ الشهر من عمرها. كنت، في البداية، أخاف من أذيتها في تعاملي معها، كما لو كانت طفلاً مولوداً حديثاً. مع الوقت، بدأت أنتبه لسلوكها، اعتمادها على نفسها بالكامل، قدرتها على التعلم، تعلقها بالمنزل، روحها الشفافة التي تمنحني السكينة، كلما ارتفع عندي معدّل التوتر. بدأت أنتبه إلى درجة إحساسها بحالتي النفسية، حين أكون قلقةً تجلس أسفل قدمي من دون حركة، حين أكون حزينةً تأتي لتمسح بيدها على وجهي، أو تقترب منه، كما لو أنها تريد أن تقبلني، حين أغادر البيت تقف لتنظر إلي بعيونٍ معاتبةٍ، كما لو أنها تقول لي لا تتأخري: حين أتأخر، أراها تقف خلف الباب بانتظاري، حين أعود من السفر، تملأ البيت حركةً، كما لو أنها تحتفل بعودتي. تحب من أحبهم من الأشخاص، تعرف جيداً من لا يحبها، فلا تقترب منه. أعترف أن وجودها في حياتي ساعدني على تجاوز أزماتٍ كثيرة، يكفي أن ألاعبها عشر دقائق، بألعابها المفضلة، كي أهدأ وأسترخي، أفكّر كثيراً بعد علاقتي اليومية معها، كم أن الإنسان كائن متنمر، يتعامل بتعالٍ مقزّز مع المخلوقات الأخرى، وكأن كوكب الأرض ملكه وحده، وهو السبب الأول والأخير بدماره، بينما لو ترك الكوكب للمخلوقات الأخرى، لما حدث به ما يحدث.

أفكر الآن بما دفع تلك السيدة لترك ثروتها الطائلة لقطتها، أفكّر بكم الأذى الذي لحقها من البشر ربما، وساعدتها قطتها على تجاوز أثره. هل كان الأمر مجرد فانتازيا؟ لن أفعل مثلها مؤكد، إذ لا شيء لديّ لأتركه لأحد، وليست عندي حالة مقتٍ للبشرية. لكن، بالتأكيد أتفهم موقفها الآن، وأدافع عن انحيازها لقطتها ضد البشر. 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.