الشرق الأوسط والسلام المستحيل

02 يونيو 2016
+ الخط -
سلام الشرق الأوسط المقصود هنا هو وضع نهاية للصراع العربي الإسرائيلي بمفهومه الشامل. ليس فقط بعقد بعض اتفاقيات السلام الثنائية، أو اتفاقيات فض الاشتباك، أو إقامة بعض قنوات الاتصال الاقتصادية، أو الثقافية، أو حتى السياسية المستترة بين بعض نظم الحكم في الدول العربية والعدو الإسرائيلي. السلام المتحدّث عنه هو السلام الحقيقي، الذي يتحول إلى حالةٍ ليست فقط لدى نظم الحكم والسلطة، ولكن لدى الشعوب العربية. حالة يشعر بها الناس، أو من نسميه "رجل الشارع" في كل العالم العربي، حالة يعيشها الناس ويطمئنون إليها، بدلاً من الشعور الدائم والكامن لدى المواطن العربي عامة، بأن هناك عدواً متربصاً به، وبمقدراته، وبأوطانه، يتمثل في العدو الإسرائيلي، ومن يدعمونه من القوى الدولية والإقليمية، ولن يزول ذلك الشعور إلا بوضع نهاية للقضية الفلسطينية.
قد يبدو هذا الحديث مكرّراً ملّ منه الناس، بسبب تكراره نحو سبعين عاماً. ولكن، ما يدفع إلى العودة إلى الحديث عن فلسطين، النكبة والقضية والأرض والشعب، هو التحركات السياسية التي طفت على السطح فجأةً في الأيام القليلة الماضية، والتي طرحت ما يشبه المبادرات، لعل أبرزها ما طرحته فرنسا لاستئناف عملية التفاوض الفلسطينية الإسرائيلية، من أجل التوصل إلى حلٍّ ما بين طرفي التفاوض، أي حكومة العدو الإسرائيلي "اليمينية المتطرفة"، والسلطة الفلسطينية في رام الله "مهيضة الجناح المنكسرة"، والمزمع عقد مؤتمر باريس لمناقشة تلك المبادرة. وثمّة طرح ثانٍ جاء من القاهرة، عنوانه إقامة سلام دافئ بين العرب والعدو الإسرائيلي، ولم يتضمن خطة عمل محددة، أو خريطة طريق للوصول إلى ذلك السلام "الدافئ" مع عدو سلب الأرض، واحتل المقدّسات، واستحل الدم العربي، ولا يزال. عدو رفض كل أطروحات السلام التي قدمها إليه العرب من قبل.
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة: ما الجديد في الموقف الذي أدى إلى تلك التحركات، وتجديد الحديث عن "سلام الشرق الأوسط"؟ وهو ما سيترتّب عليه، بطبيعة الحال، تجديد الحديث عن قضية فلسطين، وعودتها من جديد لتكون قضية العرب الأولى والمركزية. ولعل أول بادرةٍ لذلك جاءت من كيان جامعة الدول العربية، حيث عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب في مقر الجامعة في القاهرة، وحضره رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في إشارة إلى أهمية ذلك الاجتماع، وتزامنت مع الاجتماع زيارات شخصياتٍ عربيةٍ وفلسطينيةٍ مهمةٍ للقاهرة. ولا يمكن تجاهل ما حدث من تغيير في الأردن، حيث تم حل البرلمان واستقالة الحكومة، وتكليف هاني الملقي بتشكيل حكومة جديدة، وهو الذي كان رئيساً للمجلس الأردني في مفاوضات الاتفاقيات التفصيلية لمعاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية (1994- 1996)، وسفيراً للأردن في القاهرة. وفي الوقت نفسه، تخرج تصريحات فلسطينية من رام الله عن قبول السلطة الفلسطينية بكل ما تبديه الأردن من توصياتٍ، في ما يختص باختيار القيادات الفلسطينية وتسميتها لكل من السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح، في حال الفصل بين تلك المناصب.
في مقابل رسائل باريس والقاهرة وعمّان ورام الله، وبعض عواصم الخليج، عن السلام، جاء رد العدو الإسرائيلي كالعادة مخيباً للآمال، وتحفظ على مبادرة باريس، التي تتحدّث عن خطوات عمليةٍ للتفاوض والحل المباشر مع الفلسطينيين ودور للمجتمع الدولي، وترحيب بمبادرة القاهرة عن السلام الدافئ، والأهم اختيار أحد أكثر المتطرفين الصهاينة تعصباً وزيراً للحرب، هو أفيغدور ليبرمان، الشهير بتهديده بضرب السد العالي في مصر.
عودةً إلى السؤال: ما هو الجديد في الموقف، الذي يمكن أن يؤدي إلى تلك التحركات، وهل حقاً هناك سعي جاد من أجل تحقيق سلام بين العرب والعدو الإسرائيلي، سلام شامل وعادل ودافئ؟ أم هناك أسباب ودوافع أخرى؟
حقيقة الموقف أنه ليس هناك جديد في القضية الفلسطينية، ولا في مواقف أطرافها، سواء العدو
الإسرائيلي، أو سلطة رام الله وجماعاتها، أو حركة "حماس" وباقي منظمات المقاومة في غزة وخارجها. ولا في مواقف باقي الأطراف العربية والإقليمية، ولا حتى الدولية. يبدو الموقف في حالة سكون، منذ انتهت حرب العدوان على غزة في صيف عام 2014. إذاً، علينا أن نبحث عن أسباب ودوافع أخرى لتلك التحرّكات، التي تتخذ من قضية فلسطين، وهي القضية "المستدامة" عنواناً أو ذريعة لتحركاتها. ليس الأمر شديد الصعوبة، فنظرٌة متأنيةٌ على المشهد العربي في الشرق الأوسط تكشف لنا أن نظم الحكم العربية، على اختلافها، والكيانات/ أو الدول التي تحكمها تلك النظم، تمر بحالة تصدّع واضطراب شديدة، لم تمر بها عقوداً، كانت فيها تلك النظم تُحكم قبضتها على مقدرات الشعوب، وتفرض عليها شكلاً من الاستقرار أقرب إلى الاستكانة، وتجعل من حكامها أباطرةً طغاة. وبالتالي، يصبح من السهل على القوى الكبرى، ذات المصالح الحيوية في المنطقة، أن تتعامل مع تلك النظم، وتحقق مصالحها؟ حتى وقع ما لم يكن في حسبان أحد، وهو انطلاق ثورات الربيع العربي من قلب العالم العربي لتسري في كل أوصاله بدرجاتٍ متفاوتة.
وعلى الرغم من تصدّي الثورات المضادة لهبات الشعوب، ونجاحها المرحلي والمؤقت في إيقاف حركة المد الثوري، إلا أن الأهم أن الشعوب نجحت في كسر قيود الخوف والقهر، التي كانت تفرضها نُظم الحكم، وبدأت تمر بحالةٍ من استعادة الوعي، والاستعداد لمواجهة التحديات التي يمكن أن تواجه طموحاتها الوطنية، وهو إنجاز كبير وغير مسبوق، أدخل الشعوب في مرحلة مخاضٍ صعبة، قد تطول بعض الوقت، لكنها حتماً ستنتج نُظماً جديدة للحكم ذات سمات مدنية، ديموقراطية، حديثة، تحترم حرية الشعوب وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة. ولأن للقوى الدولية والإقليمية ذات المصالح في المنطقة العربية، وهي عديدة لا تنتهي عند الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، لكنها تمتد لتشمل روسيا والصين وغيرها من الدول الكبرى الصاعدة. وقبل كل تلك الدول، تأتي دولة العدو الإسرائيلي، فهي صاحبة المصلحة الأولى والأكبر. وتدرك كل تلك الدول والقوى جيداً أن التعامل مع النظم الديكتاتورية أيسر كثيراً من التعامل مع الشعوب والحكومات المنتخبة ديموقراطياً.
وأدرك المواطن العربي، بحسّه الفطري، أن عليه، أولاً وقبل كل شيء، أن يُحرّر نفسه من الظلم والقهر، ويخلع رداء الاستكانة. وعندما بدأ هذا الإدراك يتحوّل إلى فعل حقيقي على الأرض في شكل انتفاضاتٍ، شعبية على مستويات مختلفة، تفاعلت وتطورت، حتى وصلت إلى ما عُرف بثورات الربيع العربي مع مطلع عام 2011. وعلى الرغم من ضراوة الثورات المضادة التي أشرنا إليها، إلا أنها، وعلى الرغم من إمساكها بالسلطة، عبر مجموعةٍ من الطغم العسكرية، المستندة على جيوشٍ نظاميةٍ جبريةٍ، أو مليشيات عسكرية منظمة، لم تستطع إعادة المواطن العربي/ رجل الشارع إلى حظيرة القهر والاستكانة. وما زالت شعاراتٌ، مثل "الثورة مستمرة .. والشعب يريد إسقاط النظام"، تتردّد في شوارع عربية عديدة على مدى السنوات الخمس التي أعقبت انطلاق ثورات الربيع العربي.
هنا، استشعرالغرب والعدو الإسرائيلي أن الخطر الحقيقي قادمٌ، طالما استمرت الشعوب على حالة الغضب والرفض، والإصرار على استعادة حريتها وفرض إرادتها، على الرغم من كل ما تقدّمه من تضحيات. عند هذه النقطة، التقت المصالح بين الغرب بكل قواه، ومعه العدو الإسرائيلي، ونظم الحكم في معظم العالم العربي، ورأت أن الحل لدرء هذا الخطر القادم من صحوة الشعوب هو إعادة إنتاج قضية الحرب والسلام بين العرب والعدو الإسرائيلي، وإحياء مشاعر القلق المصيري لدى المواطن العربي، وإشغاله من جديد بمتاهات الصراع وعملية السلام "المستدامة"، والمبادرات والتحرّكات والاجتماعات الطارئة وعمليات الضرس من دون طحن، التي لا تنتهي أبداً، وتبقي النظم في السلطة، ومصالح الغرب قائمة، والعدو الإسرائيلي آمناً ويزداد قوةً وتمدّداً، وتبقي الشعوب على حالها في حظيرة الاستكانة بدعوى الاستقرار، والانشغال بالقضية، التي يجب ألاّ يعلو صوتٌ على صوتها إلى ما شاء الله. ويبقى الصراع في الشرق الأوسط قائماً، ويبقى السلام مستحيلاً. ولكن، تبقى الشعوب العربية حيّة، وحتماً ستنتصر.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.