الخليج بين التهدئة والتطبيع
أدرك العرب، بعد انتهاء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، بصدور القرار رقم 181، المعروف بقرار التقسيم، والذي أعطى الحق لليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وخصص لهم قرابة 54% من الأرض الفلسطينية لإقامة تلك الدولة، وجعل من القدس الموحدة مدينة ذات طابع دولي، مفتوحة لكل الأديان، أدركوا أنهم مقبلون على مرحلة تاريخية جديدة، يشوبها الغموض والالتباس. وكانت تمثلهم، في ذلك الوقت، سبع دول تتمتع بالاستقلال، وبعضوية الأمم المتحدة، وهي أيضاً الدول المؤسّسة لجامعة الدول العربية، وتضم خمسة دول ملكية، مصر والسعودية والعراق واليمن والأردن، وكذلك لبنان وسورية.
لم تعلق الوكالة اليهودية على قرار التقسيم، بالقبول أو الرفض، وتركت العرب يعلنون رفضهم له، ويتفقون على دعم مقاومة الشعب الفلسطيني للتمسّك بأرضه وحقوقه، من دون اللجوء إلى إعلان الحرب، أو استخدام الدول العربية القوة المسلحة للحفاظ على وحدة الأرض الفلسطينية وهويتها العربية، وخصوصا أن دولة الانتداب على فلسطين، بريطانيا، كانت قد أعلنت عن عزمها على إنهاء انتدابها في 14 مايو/ أيار 1948. وحتى ذلك الوقت، لم يكن الصراع العربي - الإسرائيلي قد تفجّر بشكل رسمي. وحدث التطور الرئيسي عندما قرّرت كل من مصر والأردن، بالاتفاق بين الملك فاروق والأمير عبد الله بن الحسين، التدخل العسكري في فلسطين فور إعلان انتهاء الانتداب البريطاني عليها في اليوم المعلن لذلك، والذي واكبه في اليوم التالي إعلان مسؤول الوكالة اليهودية في فلسطين، بن غوريون، إعلان قيام دولة إسرائيل، واندلعت حرب فلسطين الأولى، حرب 1948، والتي كانت بمثابة تدشين للصراع العربي - الإسرائيلي بشكل رسمي.
صراع استمر بشكله الدامي من 1948 إلى 1973، عبر أربع جولات عسكرية رئيسية، انتهت الجولات الثلاث الأولى منها بهزائم عربية مروّعة
منذ ذلك الوقت، أصبحت قضية فلسطين قضية العرب المركزية والأولى، وأصبح عنوانها "تحرير فلسطين"، والذي اعتبرته الشعوب العربية هدفاً قومياً، خاضت من أجله جولات من الحروب والصراعات الدامية، وأريقت دماء طاهرة لمئات الآلاف من أبناء هذه الأمة. صراع استمر بشكله الدامي من 1948 إلى 1973، عبر أربع جولات عسكرية رئيسية، انتهت الجولات الثلاث الأولى منها بهزائم عربية مروّعة، وتمدّد المشروع الصهيوني، وترسّخ وجود دولة الكيان الإسرائيلى على الأرض الفلسطينية، في ظل وجود زعاماتٍ رفعت شعارات القومية العربية وتحرير فلسطين، لعل أبرز تلك القيادات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي تلقّى الهزيمة الأكبر، والأعمق أثراً، هزيمة يونيو/ حزيران 1967، التي ما زالت آثارها مستمرة. وجاءت الجولة العسكرية الرابعة في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وحقّقت فيها مصر إنجازاً عسكرياً ملموساً، ووضعت حداً للهزائم العربية المتتالية، ولكنها لم تحسم الصراع العربي - الإسرائيلي، ولم تؤدّ إلى تحرير فلسطين، ولا إلى "إزالة آثار عدوان 67"، الذي أصبح الهدف القومي العربي بعد هزيمة يونيو، ولكنها أدت إلى تحرير الأرض المصرية في شبه جزيرة سيناء، عبر ما أُطلق عليها "عملية السلام"، والتي انخرط فيها الرئيس المصري، في حينه، أنور السادات، وتم في غضونها توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية فى مارس/ آذار 1979.
إذا كان قرار الملك فاروق دخول حرب فلسطين عام 1948 تدشينا للصراع العربي الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية، وهدف تحرير فلسطين، فإن توقيع السادات على معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في 1979 كان يجب أن يكون تدشينا لمرحلة جديدة، يتحول فيها الصراع، على المستوى العربي، من الطابع العسكري إلى الطابع السياسي الحضاري، بينما يبقى الصراع على المستوى الفلسطيني صراع وجود وبقاء ومقاومة تدعمه الأمة العربية. ولكن ما جرى على أرض الواقع، منذ ذلك التاريخ، جاء مختلفاً تماماً، فقد خرجت مصر من دائرة الصراع العسكري، وهي التي كانت رأس الحربة في كل الحروب العربية الإسرائيلية، ما أدّى إلى توقف الصراع الرئيسي تماماً، وتفرّغت إسرائيل للتعامل مع عناصر المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
أعقبت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بعدة سنوات اتفاقيات أوسلو التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو الإسرائيلي في 1993، ثم تلت ذلك معاهدة سلام أردنية - إسرائيلية في 1994. وإرتفعت شعارات "الأرض مقابل السلام" و"حل الدولتين" ومشروعات السلام، ومنها مبادرة السلام العربية التي طرحتها قمة بيروت العربية في العام 2002، باقتراح من السعودية، قدّمه ولي العهد، في ذلك الوقت، عبد الله بن عبد العزيز، وتبدي فيها الدول العربية اعترافها بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، شريطة انسحابها من الأرض العربية المحتلة في 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو.
لأن الجغرافيا السياسية لا تقبل الفراغ، كان لا بد من ظهور قوى إقليمية تحلّ محل دول الطوق التي غابت عن المشهد
تعاملت إسرائيل مع تلك المشروعات والمبادرات بلامبالاة متناهية، واستمرّت في استكمال مشروعها الاستيطاني على كل أرض فلسطين التاريخية، مع استمرار احتلالها الأرض العربية، في هضبة الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية. وفي الوقت نفسه، كانت فكرة الصراع العربي الإسرائيلي تتوارى، وانكسر الطوق الذي كان يُحيط بالكيان الإسرائيلي نتيجة معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، ومعاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية، واتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وضم هضبة الجولان لإسرائيل، واعتراف أميركا بذلك. وهكذا فقدت القضية الفلسطينية وفقد الفلسطينيون الظهير العربي المباشر الذي كان متمثلا في دول الطوق العربية، والتي كانت تلعب دوراً رئيسياً في الضغط على إسرائيل، وكبح جماحها، خصوصا في ما يتعلق بالقضايا الفلسطينية الرئيسية، وفي مقدمتها القدس والاستيطان، وضم الأراضي، وحق العودة للاجئين.
ولأن الجغرافيا السياسية لا تقبل الفراغ، كان لا بد من ظهور قوى إقليمية تحلّ محل دول الطوق التي غابت عن المشهد. وهنا، بدأ الدور الأميركي لتأهيل تلك القوى، ووقع الاختيار على دول الخليج باعتبارها لا تحمل خلفيات صراع عسكري مع إسرائيل، وبحكم إمكاناتها المادية الهائلة، وقدرتها على الحركة من دون قيود داخلية أو خارجية. وقد بدأ ذلك التحرّك مبكراً، بالتحديد عقب اتفاقية وادي عربة الأردنية عام 1994، حيث كان الاقتراب الأول مع دولة قطر، بافتتاح مكتب تبادل تجاري إسرائيلي في الدوحة عام 1995، وتم إغلاق المكتب لاحقاً، وعلاقات غير مباشرة مع الإمارات والبحرين وعُمان.
حقوق الفلسطينيين المشروعة، في الأرض والقدس والعودة، لن تعود لا بالتطبيع، ولا بالتهدئة، إنما بالمقاومة
إذا كانت دول الطوق العربية قد لعبت دوراً في مرحلة سابقة، كان عنوانها الصراع العربي الإسرائيلي وتحرير فلسطين، فإن ذلك الدور قد انتهى بفشل المشروع القومي العربي وبدء صعود الدور الخليجي في مرحلةٍ يمكن تعريفها بمرحلة العلاقات العربية – الإسرائيلية. ويتحرّك الدور الخليجي على محورين: "التطبيع" وعلاقات السلام والتعاون إلى حد التحالف، وهو الدور المناط بدولة الإمارات، والرهان يدور حول تطويع سلطة رام الله. و"التهدئة"، عبر الوساطة بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، بهدف وقف التصعيد العسكري بينهما، وتخفيف قيود الحصار، وذلك الدور مناط بدولة قطر، وهو ما قام به رئيس اللجنة القطرية لإعمار قطاع غزة، السفير محمد العمادي أخيرا.
يبقى أن يُدرك الفلسطينيون أن حقوقهم المشروعة، في الأرض والقدس والعودة، لن تعود لا بالتطبيع، ولا بالتهدئة، ولكنها، حتما، ستعود بالمقاومة.