بنقردان تقاتل داعش: بلادي قبل أولادي

11 مارس 2016
+ الخط -
بنقردان مدينة في الجنوب الشرقيّ التونسيّ، بدأ الفرنسيّون تأسيسها سنة 1895، ولا يفصلها عن الحدود الليبيّة الغربيّة إلاّ نحو ثلاثين كيلومترا. ويعيش أهلها من العمل في الوظائف العموميّة والخاصّة، ومن الأعمال الفلاحيّة والصيد البحريّ، ومن الاشتغال بالتجارة، وفيها يُعْرَفون. وتدور فيها، منذ الأسبوع الماضي، معركة يواجه فيها الجيشُ وقواتُ الأمن والمواطنون مسلحين من داعش. وقد قُتل خمسة منهم في جولة أولى يوم الأربعاء 2 مارس. ثمّ تآمروا ودبّروا أمرهم وهجموا على الثكنة العسكريّة ومراكز الأمن والمُعْتَمَديّة (مركز المديريّة). وقد كثر الحديث عن بنقردان في وسائل الإعلام، واختلط الصوابُ بالخطأ، والحقيقةُ بالتلبيس. فيزعُمُ كتّاب صحافيّون كثيرون أنّ المدينة تعيش من التهريب خاصّة، وهذا ادّعاء عامّ جدّاً لا يصوّر واقعاً حقيقيّا، فالمدينة تستفيد من بيع السلع المجلوبة من ليبيا واستهلاكها، وهذه السلع لا تهرَّب، بل يدخل أكثرها من المنافذ القانونيّة، وإنْ كانت ممنوعة، ومن أشهرها البنزين. والحكومات في تونس وليبيا، قبل الثورتين وبعدهما، تعرف تفاصيل نقل السلع من بلد إلى بلد، ولا تعترض عليها. وليس لهذه السلع حدود، فهي تُنقل من بنقردان، وتوزَّع في مختلف المدن التونسيّة، فلا معنى لتخصيص بنقردان بالاستفادة منها. والوصفُ الصحيح هو أنّ النشاط الاقتصاديّ في المدينة يكاد يكون متوقّفاً على علاقاتها التجاريّة في ليبيا، لا على التهريب، وأنّ نشاطها التجاريّ لا صلة له بالإرهاب. وأمّا التهريب من المسالك الصحراويّة فإنّما يستفيد منه المهرّبون، ولا سيّما كبارهم. وهم الذين يستفيدون من اضطراب التجارة من المعابر القانونيّة. فكلّما ضُيِّق عليها، ازدهرت تجارتهم. وهم قلّةٌ لا يمثّلون شيئاً بالنسبة إلى عدد السكّان (حوالي 80 ألف ساكن). ولكنّ احترافَهم التهريب وخرقَهم القانون، في الأيّام العاديّة، لا ينفيان وطنيّهم، فهم مشاركون اليوم في الدفاع عن أهلهم ووطنهم. وعلى الدولة التونسية أن تضع خطّة دقيقة لمقاومة التهريب، فتحقّق في ما يشاع عن صلة بعض محترفيه بالإرهاب، وتفكّك شبكاته التي تخرّب الاقتصاد الوطنيّ، وتقيم في المدينة مشاريع تنمية حقيقيّة.
وقد أصبح التهريب، في العشريّتين الأخيرتين خاصّة، خاضعاً لشبكاتٍ معقّدة، لكنّه كان أوّلَ الأمر نشاطاً فرديّاً في الأعمّ الأغلب. واقترن بالمعارضة واختراق القانون الظالم. فقد كان المهرّبون في العهد الاستعماريّ يعتبرون التهريب من أشكال عصيان الأوامر الفرنسيّة. ثمّ اعتبروه تحدّياً للسلطة التي تحرمهم من التنمية، وتكبّلهم بالقوانين الزاجرة بعد الاستقلال. والمعارضةُ قيمةٌ أصيلة في بنقردان منذ نشأتها، فقد قاتل أهلُها الفرنسيّين، ثمّ كانوا من أنصار صالح بن يوسف، ومنهم من أخذه نظام بورقيبة وقتله، ولم يُرجع جثمانه إلى أهله. ثمّ كان أكثرهم من معارضي نظام بن عليّ، وهي أوّل مدينة تمرّدت عليه قبيل الثورة في أغسطس/ آب 2010. وشارك أهلها في الثورة من أوّل يوم. وقد تغيّر المجتمع اليوم كثيراً، ولكنّ معنى المعارضة ما زال حيّا في نفوس الناس. وكثيراً ما يقترن عندهم بمعاني الرجولة والبطولة. ولا يُمكن ألبتّة أن يستسلموا لداعش، ويمكّنوها من حكم مدينتهم. فمعظم سكّان بنقردان هم أهلها الأصليّون. وهم "أولاد عرُوشْ" (و"العَرْشْ" في اللهجة المحلّيّة هو القبيلة). ويرتبطون بأرضهم ارتباطاً وثيقاً يصل إلى حدّ القداسة، فلذلك يُقال في النهي عن بيع الأرض: "لِي بَاعْ الوَطَا وصِلْ لِلْوَطَا"، أي من باع أرضه فقد هوى. ويقترن حبّ الأرض بالانتماء إلى تونس انتماءَ هويّةٍ ووجودٍ. فإذا دَهَمَ خطرٌ، تداعى الناسُ إلى مواجهته، ووحّدهم الشعورُ الوطنيّ، ولا سيّما الشعورُ المقترن بالبطولة الجماعيّة، كما يجري اليوم في قتال داعش. فإنّما يقاتل أهلُ بنقردان أبناءَهم، وهم إخوانهم وأصدقاؤهم وزملاؤهم، إلاّ أنّهم مجمعون على تسميتِهم إرهابيّين، وعلى وجوبِ استئصالهم واعتبارِهم آفة تهدّد الوطن. وعبّر عن هذا الشعور الوطنيّ أبو سارّة الطفلة التي قتلها الإرهابيّون يوم 7 مارس/ آذار الجاري، وهو عامل يوميّ أجرت معه قناة تلفزيّة تونسيّة حواراً قال في آخره (باللهجة التونسيّة): "بمَ نروي أرض تونس إن لم نرْوِها بدمائنا؟ بدمائنا نروي الخضراء لتزداد اخضراراً. وكلّنا لها الفداء. وبلادي قبل أولادي. ووطْنِي قبل بطْنِي". وهذا تعبير يعجز عن مثله مثقّفون كثيرون خرّيجو الجامعات لأنّه لا يُكتسب بالتعلّم، بل هو خلاصةُ امتزاج حبّ الوطن وتقديس الأرض والاستعداد للشهادة.
وأمّا السلفيّون فبرزوا في تونس بعد الثورة. واستطاعوا أن يكوّنوا شبكةً سلفيّةً، يرتبط أفرادها
بعلاقاتِ تجارةٍ وصداقةٍ ومصاهرةٍ، حتّى أصبح لهم جماعة قابلة للاستمرار، لها زعامةٌ دينيّةٌ سياسيّة، وأتباع يدينون بالطاعة، وعقيدة دينيّة صلبة، وتشريع خاصّ، يقوم على الفهم الحرفيّ الجامد، وعَصَبٌ اقتصاديّ يقوم على التجارة والوظائف الصغرى، و"علاقاتٌ دوليّة" محورُها الانتماء إلى الجماعات الإرهابيّة الدينيّة، وأهمّها داعش. ولم يتخرّج هؤلاء من المساجد، كما يقال في وسائل الإعلام التونسيّة. بل نشأوا في دولة الاستبداد قبل الثورة. واعتنقوا الآراء السلفيّة من الفضائيّات ومواقع الإنترنت. ومنهم من اكتسب خبرة قتاليّة في العراق وسورية. فلمّا قامت الثورة، وانفتح مجال العمل السياسيّ والدعوة الدينيّة، انتشروا في البلاد، ونظّموا ما يسمّونها "الخيم الدعويّة"، واستغلّوا ضعف الحكومة واضطراب البلاد بُعَيْد الثورة، فانتزعوا جوامع كثيرة، وأسّسوا الجمعيّات الدينيّة، وأقاموا "الدورات الشرعيّة"، وروّجوا خطاباً متعصّباً يستنسخ خطاباتٍ مثله في المشرق العربيّ، ويبالغ في التكفير. وكانوا يصرّحون في خطبهم ودروسهم بكفر مخالفيهم، ويحرصون كثيراً على تكفير الأشاعرة وحركات الإسلام السياسيّ. ومنهم من انتصب خطيباً يصلّي بالناس الجمعة، فكان يحفظ الخطبة من مواقع الإنترنت، ثمّ يلقيها على المصلّين، ويجتهد في تقليد طريقة أدائها. ولم تكن بنقردان استثناءً، فخرج فيها سلفيّون من أبنائها، وسيطروا على ثلاثة جوامع، لا يفصل أحدها عن الثكنة العسكريّة إلّا نحوُ مائة متر. وكانوا يجتمعون فيها، ويصلّون، ويخطبون، ويبثّون خطابهم التكفيريّ، والحكوماتُ التونسيّةُ تسمع وترى ولا تفعل شيئا. وانتشروا في جوامع أخرى، وآذوا الناسَ بتعصّبهم ونَزَقِهم واعتراضاهم وهيئاتهم.
وتُبيّنُ ملاحظة التحوّل الاجتماعيّ في تونس بعد الثورة أنّه برز في المجتمع التونسيّ انشقاقان دينيّان. أحدهما الانشقاق "السلفيّ الجهاديّ". ولم يستطع التغلغلَ في المجتمع التونسيّ، إذ نفر التونسيّون منه، لجهلِ أتباعه وهَوَجِهم وجهرِهم بتكفير الناس ومواجهتِهم الدولة ووصْفِ الجيش وقوات الأمن بالطاغوت وسوءِ هيئتهم وغرابةِ لباسهم عن تقاليد المجتمع. والثاني الانشقاقُ الشيعيُّ، وهو لا يواجه الدولة، ولا يعارض في خطابه المعلن التجربة الديمقراطيّة، ولا يصدم الناس بهيئةٍ غريبة، لكنّه يعمل على صناعة طائفةٍ شيعيّة، فيشقّ المجتمع شقّا، ولا يختلف في نتائجه الاجتماعيّة البعيدة عن الانشقاق "السلفيّ الجهاديّ". وقد تجرّد المواطنون في بنقردان من انتماءاتهم القبليّة، ومصالحهم الشخصيّة، وساندوا الجيشَ وقواتِ الأمن، وحاصروا الإرهابيّين، وبعضُهم من أقاربهم، فضربوا مثلاً رائعاً على التصميم على مواجهةِ الهويّاتِ الطائفيّة المدمّرة واستئصالِ مشاريع الخراب الاجتماعيّ.

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.