الجريمة في المدرسة التونسية

14 نوفمبر 2021
+ الخط -

أقدم تلميذ في التعليم الثانوي في تونس، عمره 17 عاماً، على ضرب أستاذه بساطور على رأسه، وطعنه في وجهه ويديه ورجليه بسكّين في قاعة الدرس. وانتهى الاعتداء بحالة حرجة للأستاذ، لم يبدأ في التعافي منها إلّا بعد إجرائه سبع عمليّات جراحيّة معقّدة. وقبَض الأمن على الجاني في اليوم نفسه. وفتحت الجريمة حديثاً متداخلاً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، أكبرُ خصائصه استسهالُ اتّهام الخصم، والرؤيةُ الجزئيّةُ الفقيرة، فاعتبرها فريق من أعراض الاحتقان الذي سبّبه الانقلابُ وتحريضُ الرئيس؛ وعاد آخرون بأسبابها إلى روابط حماية الثورة (2011) وحركات الاحتجاج السياسي وعصابات الجريمة المنظّمة والمخدّرات والبرامج التلفزيونية التي تخصّصت في إثارة مواضيع الجريمة والخيانة الزوجيّة وزنا المحارم والاغتصاب والمثليّة والزطلة (استهلاك القنب الهندي)؛ وفسّرها غيرهم بمشاهد العنف والسبّ في البرلمان بعد الثورة؛ وعدّها آخرون من نتائج تهميش مادّة التربية الإسلاميّة في التعليمين، الابتدائي والثانوي، ورأوا الحلّ في زيادة ساعات تدريسها، أو في تدريس مادّة "السيرة النبويّة" لتحسين أخلاق الشباب.

لا شكّ في أنّ الانقلاب أوجد حالة من الانقباض العامّ، وحرّض الرئيس أنصاره على خصومه السياسيّين، واستعمل عباراتٍ من أخطرها معجم الجراثيم والتطهير. ولكنّ حصر سبب الجريمة في خطابه وأسلوبه مبالغةٌ إيديولوجيّة تزيد الناس انهماكاً في جوّ التحريض. وللبرامج التلفزيونية المذكورة في التعليقات نصيبٌ في صناعة الانحراف، لكنّ اتّهامها بصناعة الجرائم كلّها كسل فكريّ وفشل تربويّ. وكذلك سائر التفسيرات التي تكتفي بسبب واحد ومتّهم واحد.

إنّ تاريخ المدرسة التونسيّة يدلّ على أنّها تنتج العنف، ولم يتغيّر إلّا نوعه

أمّا الإضراب الذي قرّر الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل تنفيذه في جميع المؤسّسات التربويّة يوم الثلاثاء الماضي، 9 أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري، فموقف انفعاليّ لا يصحّ منه إلّا أصله، وهو ضرورة دفاع الاتّحاد عن منظوريه. أما الانتقال من الأصل/ الفكرة إلى تنفيذ الإضراب قبل التحقيق في الحادثة فانغماسٌ في الانفعال السلبيّ؛ واختصارُ الموقف في الإضراب عن العمل قطعٌ بتبرئة النفس (الاتّحاد والمنظورين) واكتفاء بإلقاء التهمة كلّها على جهة واحدة.

تنبّه هذه الجريمة البشعة وما تبعها من مواقف انفعاليّة وأيديولوجيّة إلى حقيقة ما يجري في المجتمع التونسي، فقد بدأ يرتطم في الجريمة منذ مدّة، ووصفت إحصاءات وتقارير كثيرة ارتفاع نسبة الجريمة والعنف، إلّا أنّه لا يوجد مشروع وطنيّ لمعالجتها/ بل يساعد الواقع على زيادة استفحالها، فالدولة تقدّم خدماتٍ رديئةً في التعليم والصحّة والخدمة الاجتماعيّة؛ والأسعار تزداد ارتفاعا؛ والفقر يزداد انتشارا (أكثر من مليونين و500 ألف تونسيّ تحت خطّ الفقر)؛ والشبابُ المتعلّم لا يجد العمل الذي تعلّم من أجله؛ والشبابُ المنقطع عن التعليم يجد في الشارع والتفاوت الطبقيّ والحرمان الاجتماعيّ والانسداد السياسيّ جميعَ أسباب الانحراف إلى العنف؛ والمؤسّساتُ الثقافيّة (دور الشباب والثقافة) لم تستطع أن تنتج خطابا يجد فيه التلميذ/ الشابُّ حاجته الثقافيّة والنفسيّة، فهي لا تملك مشروعا مجتمعيّا وطنيّا، بل تشتغل باعتبارها مؤسّسة حكوميّة مطالبة بإنجاز عدد من الأنشطة الثقافيّة في كلّ عام. وفي وسائل التواصل بأنواعها محتوى عنيف لا يمكن مراقبته ولا مقاومته، ويواجهه التلميذ أعزلَ، فيثير غرائزه ونوازعَ العنف فيه، وقد يلقي به في عالم متخيَّل له معاييره الخاصّة. وفي هذا الواقع المعقّد، تكابد الأسرة لتحصيل القوت، وتوفير حاجات المدرسة وضرورات العلاج، وتحقيق قدرٍ من الرفاه ينحصر عند أغلب العائلات في أشكاله الأسريّة البسيطة. وهذا كلّه يبيّن أنّ الجريمة الأخيرة علامة على أزمة دولة ومجتمع لا قطاع واحد. لكنّ العمى القطاعيّ والضيق الأيديولوجيّ يمنعان أصحاب كلّ قطاع من رؤية المشهد كلّه، ومن إدراك الخطر العامّ، فتنحصر المطالب في "ضمائد موضعيّة"، والهولُ يزداد في كلّ يوم.

جريمة بشعة ينبّه ما تبعها من مواقف انفعاليّة وأيديولوجيّة إلى حقيقة ما يجري في المجتمع التونسي

ولا تمثّل المدرسة التونسيّة استثناء في هذا الواقع الذي يمارَس فيه العنف في الأسرة، والشارع، ووسائل الإعلام، وشبكات التواصل. بل إنّ تاريخ المدرسة التونسيّة يدلّ على أنّها تنتج العنف، ولم يتغيّر إلّا نوعه، فقد كانت المعاهد الثانويّة والجامعات في السبعينيات والثمانينيات ساحة صراع أيديولوجيّ بين اليساريّين والقوميّين والإسلاميّين، وجرت فيها معارك طاحنة بالأسلحة البيضاء. ثمّ عمل النظام، منذ مطلع التسعينيات، على محاصرة الاتّجاهات السياسيّة، ونجح في القضاء على بعضها، فاختفى الصراع الأيديولوجيّ العنيف في الممارسة وبقي في الاعتقاد والخطاب. ويضاف إلى هذا المعطى سوءُ الحال في المدرسة التونسيّة من حيث اكتظاظُ الفصول، وكثافةُ الزمن المدرسيّ، وانعدامُ الأنشطة الترفيهيّة، وفقرُ/ انعدام المكتبات، وقدرةُ المربّين/ الأساتذة، وقدمُ المناهج (الكتاب المدرسيّ للتعليم الإعداديّ في بعض الموادّ لم يتغيّر منذ أكثر من عشر سنوات)، وتخلِّي مدرّسين عن صفتهم التربويّة في وسائل التواصل، حين أخذوا ينشرون في تدويناتهم وتعليقاتهم خطاباً عنيفاً جدّاً في وصف خصومهم السياسيّين.

وكانت تقع منذ أكثر من ثلاثين عاماً وقائع متفرّقة، يعتدي فيها التلميذ على معلّمه/ أستاذه، ثمّ يعاقب التلميذ بالطرد، ويُواسى المدرّس بمؤازرة الزملاء واعتذار الوليّ، وتُنسى الوقائع. ثمّ نالت التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من منزلة المعلّم والأستاذ، فتراجعت في الواقع وفي الوجدان. وفقد المدرّس مكانة الموظَّف المحترم في مجتمع فقير أمّيّ، وتفوّق عليه مكانةً وثقافةً أصحابُ وظائف كثيرة. وساهم المدرّس بسلوكه الجديد في اللباس والهيئة والعلاقات اليوميّة في تقليص احترام المواطنين له. وساهمت هذه العوامل جميعاً في تغيّر نظرة التلميذ إلى أستاذه، وجرّأته على إهانته. وتدلّ تعليقات تلاميذ بعد الجريمة على سعادة بعضهم وتمنّيهم مثلها لغيره من الأساتذة.

ولعلّ أخطر ما في هذه الجريمة أنّ العنف لم يكن موقفاً انفعاليّاً من التلميذ في الفصل، بل كان عملاً مدبّراً سبقه تخطيط طويل، ولم يجد التلميذ وهو يخطّط ويمشي إلى القسم لتنفيذ الجريمة وازعاً من ضميره الديني أو الاجتماعي أو الإنساني يمنعه من الفعل. وأوّل المعالجة المجدية اتّخاذُ القرارِ السياسي القويّ الهادئ، ثمّ عملُ والمؤسّسات، والنظرُ في مرآة النقد وإن كان مؤلما، ففي المدرسة التونسيّة أمور كثيرة تحتاج إلى تغيير جذريّ.

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.