ولادة عسيرة للخيارات الأميركية بشان سورية

27 أكتوبر 2016
+ الخط -
استنزفت أميركا طاقات حلفائها، وهي تتحدّث عن نيتها تصنيع خياراتٍ بديلة في سورية، بل وضعت الثورة السورية نفسها في سلسلةٍ من المخاطر غير المسبوقة، والأخطر أن سياستها هذه جعلت من روسيا شريكاً واقعياً في إدارة السياسات الدولية، على الرغم من أنها طرف غير مؤهل لهذه الأدوار، نظراً لضعف خبراتها في الإدارة السلمية للأزمات.
ماذا فعل أوباما؟ استنفر وكالاته وأجهزته، وطلب منها اقتراح خيارات وبدائل للتعاطي مع الحالة السورية، شرط أن تكون تلك الخيارات عملية، ويمكن تنفيذها، بهدف تعديل موازين القوى، أو تصحيح الخلل الذي أحدثته روسيا وحلفاؤها في حلب، وذلك لانعكاس هذا الخلل على مصداقية أميركا ومصالحها. والمعلوم أن لدى الأجهزة الأميركية تقديرات وقوائم خيارات كانت قد أعدتها في مناسبات سابقة، سواء بقصد الوقوف الدائم على تطورات الأزمة وتداعياتها المنفلتة، أو حتى تلبيةً لطلب من الإدارة نفسها التي طالما وقفت على عتبة الأزمة، متأبطة ملفها بين جنيف وموسكو، وكانت هذه الخيارات على الدوام تحتاج إلى تحديث وتعديلاتٍ، نظرا للمتغيّرات السريعة الحاصلة في مواقع الأطراف وظروف الحرب.
من الواضح اليوم، ومن الاجتماعات الكثيفة وطول مدة التشاور أن واضعي الخيارات للرئيس أوباما يعملون ضمن مناخاتٍ صعبة، فالرجل يطلب منهم المشورة، نتيجة ما يتعرّض له من ضغوط. وفي الوقت نفسه، يقيدهم بمحاذير كثيرة، تكاد تكبّل قدرتهم على الحركة والفعل، حيث يقع هامش البدائل المقبولة من أوباما بين حدي انعدام المخاطر وعدم تورّط أميركا بإرسال قواتٍ إلى سورية.
وتكشف تصريحات أوباما المتواترة أنه يجري، على الدوام، موازنةً بين المخاطر والفرص في القرارات التي سيتخذها، من دون أن يلتفت إلى أن التغيرات جارية بشكل متدفق، وما قد يكون اليوم فرصةً يصبح غداً، وفي حال التلكؤ في التنفيذ، خطراً أو أقله فرصةً قليلة الجدوى والفعالية، فماذا سيعني السماح بتسليم مضادات للمروحيات، في وقت تكون روسيا قد استعادت حلب، وهدّدت الفصائل في مناطق أخرى. حينها لن تكون ثمة حاجة لسلاح المروحيات. أو ماذا يعني احتمال قصف مطارات محدّدة، فيما تتولى روسيا القوة النارية الجوية من مطار حميميم؟
الأهم أن الخيارات التي تسعى أميركا إلى اجتراحها لن تترجم على شكل التزامات دائمة، ولا
أعمال مستدامة، إلى حين تغيير موازين القوى على الأرض، لن تكون أكثر من ضربة واحدة إن حصلت، أو دفعة محدّدة من الأسلحة. وهنا، على القيادة الأميركية أن تتنبه بالفعل للمخاطر التي ستجلبها مثل هذه السياسات، حيث إنها ما لم تردع روسيا وتجبرها على التراجع عن أساليبها، فإنها ستدفعها إلى استعمال أقصى أنواع العنف تجاه الشعب السوري، وستفعل ذلك بذريعة أنها تخوض حرباً مقدّسةً ضد أميركا والغرب، كما أن نظام الأسد سيزاود على السوريين بأنه يواجه مؤامرةً كبرى لإسقاطه وإسقاط الدولة السورية. أليس من الأفضل لخياراتٍ على هذه الشاكلة أن لا ترى النور؟
لم تفعل دراسة الخيارات الأميركية سوى تحفيز روسيا على توسيع انتشارها في سورية، وإرسال مختلف صنوف الأسلحة. وهنا أيضاً مكمن خطورة آخر، ذلك أن عدم اتخاذ واشنطن إجراءاتٍ رادعة ضد روسيا سيعني أنها لم تفعل شيئاً آخر، سوى تغيير ديناميكية الصراع لصالح روسيا في سورية. وهي وضعيةٌ لن يستطيع الرئيس القادم أن يفعل تجاهها شيئاً له قيمة.
أسقطت أميركا، بتردّدها وسلوكها المتهاون، عدة خيارات، كانت، حتى وقتٍ قريبٍ، ممكنة التحقق: خيار تشكّل ائتلاف إقليمي، تقوده تركيا والسعودية، يسقط نظام الأسد، وخيار إمكانية إسقاطه من الثوار، وخيار إنشاء منطقة آمنة، حتى وإن كانت هناك مصاعب عملية تقف في وجه تنفيذ هذه الخيارات، فإنه مع الاستعدادات الروسية وطبيعة الانتشار وحجم الأسلحة صارت كلها في حكم الماضي.
ويمكن للمراقب لصيرورة الإجراءات الروسية في سورية ملاحظة بعدٍ تقنيٍّ خطير فيها، ذلك أن تلك الإجراءات كانت، في الغالب، ذات طابع تكتيكي اختباري (أوراق ضغط تكتيكية)، طبيعة الاستعدادات ومستوى التحضير وحجم الموارد والأصول كانت مؤشرات واضحةً على ذلك، لكن الرد الضعيف من أميركا حوّلها إلى إجراءات مستدامة واستراتيجية، ولم تأخذ الإجراءات الروسية وقتاً طويلاً، في طور الاختبار، قبل أن تتحول من مجال المناورة المتحرّك إلى الواقع الاستراتيجي الصلب. لذا من المقدّر أن يحصل تمدّد وانتشار روسي في الأشهر القليلة الباقية من حكم أوباما، بما يوازي أضعاف ما جرى حتى اللحظة، وليس في سورية وحدها، وإنما على مستوى العالم.
لم تكن أميركا بحاجةٍ إلى دراسة مديدة لخياراتها، لقد وفّرت لها ظروف الحرب السورية
وتطوراتها الفرصة تلو الأخرى، للقيام بعملٍ يؤيده المجتمع الدولي كله. كان يمكن إنزال الإمدادات الإنسانية فوق حلب، وغيرها من المناطق المحاصرة، بطائرات نقل أميركية من مسؤولي الأمم المتحدة. وكان يمكن أن يكون ذلك بدايةً لتأسيس آلية تدخلية خالية من المخاطر، لو أن إدارة أوباما التقطتها وطوّرتها.
غالباً ما تنتهي الخيارات الأميركية بفرض عقوباتٍ من نمط منع بعض ضباط الأسد وقادة نظامه من السفر إلى أميركا، والذين في الواقع لا يفكرون أصلاً بزيارة أميركا، ولن يكون لديهم وقت لزيارتها، في ظل انشغالهم في الحرب. وعند انتهاء الأزمة، سيكون القسم الأكبر منهم قد غادر الحياة، أو عقوبات اقتصادية تطاول بعض رجال الأعمال القريبين من بشار الأسد، وهم من المفترض أن يكونوا، بدون هذه الواسطة، مطلوبين للانتربول الدولي، نتيجة فسادهم وجرائمهم الاقتصادية.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".