هل تغيّر غزّة التعامل بين الشمال والجنوب؟

03 يونيو 2024
+ الخط -

أعادت الحرب الإسرائيلية على غزّة تشكيل المواقف العالمية عبر تقسيمها العالم إلى شمال وجنوب، وظهرت للمرّة الأولى مواقفُ حاسمةٌ من دول الجنوب ترفض معايير الشمال، التي سيطرت على منظومة القيم العالمية من خلال احتكار تعريف الإرهاب بعد تفصيله على مقاسات مساطرهم، ومن ثمّ، استخدامه أداةً في ابتزاز دول الجنوب لإدامة إخضاعها وإضعاف قدراتها التساومية في لعبة المصالح الدولية.
شكّل تأييد الغرب المطلق لإسرائيل ثغرةً هائلة استطاعت من خلالها دول جنوب العالم هدم السردية الغربية عن حقوق الإنسان والعدالة والحرّية، إذ تكشّف أنّ هذه القيم لا سندَ غربيّاً لها حينما تخصّ شعوب الجنوب، بل إنّ هذه القيم تصبح رخوة إلى حدّ بعيد عندما تخرج من أسوار الغرب، وغالباً ما تكون مُحمّلة بشحناتٍ عنصرية عن اللون والدين والعرق. النقد الجنوبي للغرب اتّخذ شكل سياق جيوسياسي ارتكز إلى إصرار الغرب الفاضح على دعم إسرائيل، رغم المخاطر المُرتفعة التي جلبتها حرب إسرائيل على السكّان المدنيين، والتي نتج عنها عشرات آلاف الضحايا من الأطفال والنساء، في حين اعتُبرت أكبر عملية دوس للقانون الدولي، الذي صاغ الغرب معظم بنوده، لذا، كانت مبادرة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية بمثابة ثورة الجنوب لصيانة قيم العدل الإنسانية بعد التشكيك في قيم السلطة الأخلاقية للغرب، ومعاييرها المتهافتة.

قناعةٌ راسخةٌ لدول الجنوب بأنّ عمليات صنع القرار قي المجال الجيوسياسي، يحتكرها الغرب بناءً على أسباب لم تعد موجودة، في ظلّ تبدّل المعطيات التي وفّرت له هذه الهيمنة

لقد سلّطت، جنوب أفريقيا، عبر رفعها قضية الإبادة الجماعية في حقّ سكّان غزّة، الضوء على خطّ صدع أعمق في الجغرافية السياسية العالمية، وكشفت جنوباً عالمياً يشعر بالإحباط الشديد تجاه سياسات الغرب، وهذا الإحباط جرى التعبير عنه في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتّحدة، التي تملك فيها دول الجنوب الثقل الأكبر، عبر تصويتها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ووقف الحرب في غزّة. وتكشف مواقف دول الجنوب التي عانت في معظمها الاستعمار أنّ دول الغرب تتعاطى مع الفلسطينيين كما تعاطت مع شعوبها، في ظلّ وجود قواسم مشتركة تجمع الفلسطينيين بشعوب تلك الدول، كما أنّ الغرب، الذي ما زال مُتّهماً بمحاولة السيطرة على شعوب الجنوب عبر أدوات وأنماط جديدة من أدوات الإخضاع والاستتباع، يستخدم مثل هذه الحروب لترسيخ سيطرته العالمية، ويجعل من مسألة انفكاك هذه الأطراف عن السيطرة الغربية أمراً مستحيلاً.
وتكمن وراء مواقف دول الجنوب قناعةٌ راسخةٌ بأنّ عمليات صنع القرار قي المجال الجيوسياسي العالمي، يحتكرها الغرب بناءً على أسباب لم تعد موجودة، في ظلّ تبدّل المعطيات التي وفّرت للغرب هذه الهيمنة، وتمكّن العديد من دول الجنوب تحقيق مستويات نمو وحوكمة عالية، ما يؤهلها إلى أن تكون شريكاً أساسياً في إدارة النظام الدولي وتقرير معاييره المُنحازة إلى مصلحة الأطراف الغربية بدرجة كبيرة، وقد جعلت الحرب على غزّة هذه المطالب شرعية، في ظلّ تهافت الموقف الغربي، وخروجه عن المنطق، بل تهديده لمستقبل العلاقات الدولية. لقد عزّزت الحرب على غزّة أهمّية دول الجنوب وفعّاليتها من خلال الظهور كتلةً فاعلةً ومُؤثّرة، في سياق العمل على إيجاد رؤية جديدة للنظام الدولي، بعيداً عن سياسات القطبية التي تجعل من دول الجنوب مُجرّد هوامش خاضعة وقابلة للاستقطاب لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، في ظلّ طموح دول الجنوب إلى نظام أكثرَ تنوُّعاً وتمثيلاً، وأقلّ تحكُّماً وتوجيهاً من القوى الكبرى، الأمر الذي بات يطرح التساؤل عن المدى الذي ستصل إليه إعادة التموضع الجديدة، وانعكاسها على توازنات النظام الدولي.

المنطق يستدعي البحث عن مقاربات جديدة تفرض على الغرب احترام قضايا شعوب الجنوب، ومراعاة مصالحها 

لكنّ هذا الموقف، إن لم يجرِ تحصينه، سيكون عرضة للاختراق، ولا سيّما أنّ معظم دول الجنوب مرتبطة اقتصادياً بالغرب، إذ زادت العولمة من عمليات الترابط وكادت تُخرج الأوراق الاقتصادية التي يمتلكها الجنوب الغني بالثروات والطاقات، من خانة أوراق التفاوض القويّة، وما تفعله دول الجنوب من انتفاضات ضدّ المصالح الغربية، واستبدالها بعلاقات مع الصين وروسيا، لا يعدو تبديلَ مُستغِلّ بآخر، بعد أن تحوّلت هاتان الدولتان رأسماليّتَين؛ قذرة في روسيا، وانتهازية إلى أبعد الحدود في الصين، لدرجة حرمان أصحاب الثروات، ليس من الحصول على عوائد متوازنة من ثرواتهم، بل سرقة أصولهم الاقتصادية، مثلما تفعل الصين في أكثر من منطقة في العالم.
وإذا كان من غير المنطقي مطالبة دول الجنوب بعزل نفسها عن الطرف الآخر، وهذا الأمر، في الأصل، غير ممكن نظراً إلى تشابك العلاقات والمصالح وتنوّعها، فإنّ المنطق نفسه يستدعي البحث عن مقاربات جديدة تفرض على الغرب احترام قضايا شعوب الجنوب، والأخذ في الاعتبار أهمّية هذه الكتلة الضخمة من شعوب العالم، ومراعاة مصالحها، واحترام قضاياها. ربّما من الصعب تصوّر أن تصبح للجنوب هياكلُ وأطرٌ وأيديولوجيا في مواجهة الغرب المتناغم والموحّد، على الأقلّ، في تعامله مع الآخر، هذا الأمر تقف دونه اعتبارات كثيرة، أهمّها عدم توفّر الحافز لاختلاف ظروف كلّ دولة من دول الجنوب، لكنّ هذه الدول أظهرت خلال الحرب على غزّة مواقف منسجمة وموحّدة، يمكن البناء عليها لوضع أسسٍ لقواعدِ تعاملٍ جديدةٍ مع الغرب في المرحلة المُقبلة.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".