اليسار المغربي في مفترق الطرق

20 أكتوبر 2016

رموز أحزاب مغربية بالرباط تنافست في الانتخابات (7أكتوبر/2016/فرانس برس)

+ الخط -
أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية في المغرب يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، معطياتٍ مرتبطة بجانبٍ من التحوُّلات التي يعرفها المشهد السياسي المغربي. والإشارة هنا إلى إعادة تشكيل المشهد الحزبي، أي بلورة تعدُّدية جديدة بمواصفاتٍ معينة، حيث يجري الإعداد للتخلص من تركة الحركة الوطنية وتياراتها، وبناء تيارات سياسية قادرة على التلاؤم مع المتغيِّرات التي عرفها المغرب في العهد الجديد، ومن دون إغفال التفاعل أيضاً، مع بنيات العمل السياسي في عالم متغيِّر، حيث يتم إغفال المرجعيات العقائدية والنظرية الكبرى، لمصلحة العناية بالمقاربات الإجرائية في بعدها البراغماتي الخالص.
نقرأ نتائج انتخابات 7 أكتوبر، ضمن الأفق الذي يجري، في نظرنا، تركيبه في ضوء مآلات العمل السياسي في مجتمعنا، ومآلات تجربة التناوب التوافقي، بما لها وما عليها، وكذا تداعيات حراك شباب "20 فبراير" التي كشفت جوانب من تفاعل الشارع المغربي مع انفجارات 2011 في المشرق والمغرب العربيين. وقد وضعت ترتيبات الحملة الانتخابية التي انطلقت منذ سنتين على الأقل مختلف المعطيات التي كثفنا أعلاه، حيث اتجه النظام السياسي، بالتعاون مع أطراف عديدة داخل المشهد الحزبي، إلى تركيب قطبية ثنائية.
ضمن هذا السياق المُرتَّب والمركَّب بعناية، صُنعت شعارات ومرويات وبكائيات التدافع السياسي في الحملة الانتخابية، وضمنها أيضاً، أعلنت النتائج التي بوّأت القطبين الرتبتين الأولى والثانية، وتركت لباقي الأحزاب المقاعد المتبقية، في برلمانٍ حصل فيه طرفا القطبية على أزيد من نصف عدد أعضاء البرلمان (228 من 395).
لا يمكن النظر إلى هذه المسألة ببساطة، كما لا يمكن قبولها سياسياً، على الرغم من كل المبرّرات التي راكم المدافعون عنها من كلا القطبين، ذلك أنها مسَّت في العمق روح النظام السياسي المغربي، القائم منذ الاستقلال على احترام التعدّدية السياسية، في مجتمع يروم بناء مشروعه في الإصلاح الديمقراطي.
يُعَقِّب ملاحظٌ على ما نحن بصدده، فيشير إلى أن مصير مبدأ التعدُّدية في الأنظمة الديمقراطية
يصل، في بعض أطواره، إلى بناء قطبيةٍ تتجاوز جوانب عديدة من تعدّديته الصورية، حيث تصبح معالم الصراع السياسي مركَّزة في أقطاب كبرى متنافسة، أقطاب يفترض أن تستوعب المتشابه والمتقارب، كما تستوعب، فيما بينها، توافقات المصالح الواحدة، بهدف تسهيل آليات الصراع ودمقرطتها، إلا أن ما حصل في المشهد الحزبي من إنزال واختراق لم يكن من قَبِيل ما ذكرنا، ذلك أن القطبين الفائزين، وهما معاً جديدان في مشهدنا الحزبي، رَتَّبَا لآلية الحملة الانتخابية بصورةٍ تجعل الصراع على مقاعد البرلمان المغربي بينهما فقط، بصورةٍ تكشف عن وجود أشكالٍ من الخلل القانوني والسياسي المؤطر للعملية الانتخابية ومستلزماتها.
ملاحظتان اثنتان تَخُصَّان النتائج التي ترتَّبت عن انتخابات 7 أكتوبر: نجاح النظام السياسي في جعل المشهد الحزبي التَّعَدُّدِي يتشكَّل من قطبين، وهذه المسألة تثير أسئلة وتحفُّظات عديدة. الأمر الثاني، حصول تراجُع كبير للقِوى اليسارية في المشهد الحزبي. نعرف أن المسألة لا تخص اليسار المغربي وحده، ففي العالم أجمع، يمكن أن نتحدّث عن أنماط عديدة من تراجُع القِوى اليسارية، وعن أنماطٍ أخرى من التراجع التي لحقت اليسار، ومسّت كذلك بنياته التنظيمية والمؤسَّسِيَّة. كما يمكن أن نتحدّث عن صعود اليمين المحافظ.
صلابة التحديات التي يواجهها اليسار في محيط العمل الحزبي في مشهدنا السياسي، تعادلُها صلابة أخرى، ترتَّبت عن تجربة اليسار نفسه في العمل السياسي، والإشارة هنا إلى تركة الخلل التنظيمي التي تحملها كثير من أجنحته وتياراته، وإلى عدم قدرة كثير من مُكَوِّنَاتِه على تجاوز إرثها التقليدي في كيفيَّات التعامُل مع تحوُّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا. إضافة إلى ذلك كله، يُواجِه اليسار جملةً من الأحكام المُسْبَقَة عن تياراته، وعن معاركه ولغته، من دون أن يُكَلِّف نفسه عناء الالتفات إلى صراعات الراهن، وهي صراعات تحمل، في بعض أبعادها، جوانب مُحَدَّدة من تَرِكَة عقود من أخطاء اليسار التاريخية في التصوُّر والممارسة.
لا يعني هذا أن الأحزاب التي حصلت على أعلى أغلبية المقاعد البرلمانية تتمتع بحضور سياسي، أو تنظيمي، يفوق ما لدى الأحزاب التي نالت ما تبقَّى، قدر ما يعني أن قدرة الأخيرة على بلورة الوسائل والوسائط التي تُمَكِّنُها من التفاعل مع مستجدّات الكتلة الناخبة، ودفع كتلة العزوف إلى الركون إلى عزوفها في زمنٍ أصبح فيه السياسي يتحدّث بلغةٍ تعجز النخب عن فَكَّ مستغلقاتها وشطحاتها.
نعتبر أن أسئلة الانتظارات السياسية والثقافية في مجتمعنا، بعد الانتخابات أخيراً، أكثر من يوم مَضَى، إلى البحث في كيفية تجاوُز مظاهر الخَلَل الحاصل في الجبهة اليسارية في مشهدنا الحزبي، حيث نفترض أنه لا يُمكن أن يستعيد اليسار قُوَّتَه في مشهدنا السياسي من دون تشخيص جَيِّد ودقيق لأعطابه، ومن دون سَعْيٍ إلى إعادة بناء مرجعية الخيارات المناسبة لأسئلة الحاضر وتحدِّياته الكبرى.
دلالات
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".