الصين .. حزبٌ واحد ورجلٌ واحد وتتغير

09 سبتمبر 2015

مصلحة الشعب الصين تسبق الالتزام بأيديولوجية الحزب (العربي الجديد)

+ الخط -
تحتفل الصين، هذه الأيام، بالذكرى السبعين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية، إلى جانب الحلفاء، ودحرها الاحتلال الياباني عن أراضيها. ويحضر الرئيس الصيني، شين جين بينغ، الذي تولى السلطة في العام 2013، استعراضاً عسكرياً كبيراً يقام على المسافة الممتدة بين شارع السلام الدائم، وصولاً إلى المكان الأكثر شهرة في بكين: ميدان تيان آن مين الذي شهد أبرز الأحداث السياسية في تاريخ الصين المعاصر.

هو أكثر من مجرد احتفال بالنصر. لو كان كذلك، لكان من الطبيعي أن تحتفل الصين بذكراه كل عشر سنوات مثلاً. لكنها لم تعتد أن تفعل. إنه استعراض للقوة فيما يبدو، يتناسب مع حكم الرجل القوي الذي يجلس، اليوم، في قصر الرئاسة: يبدو الرئيس شين رئيساً أكثر صلابة وقوة من سابقيه، ويريد على الأغلب أن يكرس صورته رجلاً قوياً من خلال هذا الاحتفال العسكري المهيب، بعد أن باتت خطته المسماة "الطريق والحزام" القائمة على توثيق الصلات مع محيط الصين، بما فيها المنطقة العربية، بمثابة الأفكار المرشدة الوحيدة لعموم السياسة الصينية اليوم.

التنافس في عضوية الحزب
لكن: هل يمكن أن تنزلق الصين، مجدداً، إلى حكم رجل واحد، يقود حزباً شمولياً واحداً، بعد عقود من خروج الصين من هذه النمطية المعطّلة؟ لعل واحداً من أهم مفاتيح فهم سرّ النجاح الصيني الكبير في الانتقال من دولة نامية إلى دولة ناهضة، في أقل من أربعين سنة، هو تأمّل الكيفية التي تعامل بها الحزب الشيوعي الصيني مع إدارة الدولة، باعتباره حزباً أوحد لدولة شمولية. فعضوية الحزب ليست متاحة لكل الناس، وإنما يجري التنافس عليها بين الراغبين بالانضمام إلى الحزب، عادة في السنة الدراسية الأخيرة من الجامعة، ويظفر بالفوز بالقبول واحد فقط من بين خريجي كل تخصص دراسي في كل جامعة، يكون هو الأبرز بينهم، تحصيلاً ونشاطاً وشخصية وذكاءً اجتماعياً. إنه ليس حزباً لكل من هبّ ودبّ، كما جرى في الأحزاب الشيوعية التي حكمت بلدان شرق أوروبا، ولا الأحزاب القومية التي حكمت بلداناً عربية رئيسية، فتسرب منها إلى إدارة الدولة عديمو الكفاءة ومحدودو القدرات، بحجة ولائهم للحزب والقيادة، ففشلت الدولة وعمّ الفساد، وبنيت العلاقة بين الفرد ودولته على النفاق والانتهازية.
إنها طريقة ذكية في تحويل الحزب الحاكم إلى "حزب النخبة": ليس نخبة الأثرياء، ولا نخبة القبيلة أو الطائفة، وإنما نخبة الأذكياء من كل قوميات الشعب وفئاته. هكذا يبلغ أعضاء الحزب الشيوعي الصيني نحو سبعين مليون فرد، من بين 150 ألف مليون، هم مجموع تعداد الشعب الصيني، فقط.

بهذه الطريقة، حال الحزب الحاكم من تحويل الدولة إلى "دولة الفاشلين" الذين يحكمون باسم الحزب، كما جرى في كل الدول التي حكمها حزب واحد، بعد الحرب العالمية الثانية، فالفاشلون لا مكان لهم في إدارة الدولة، لأنه لا مكان لهم في عضوية الحزب من حيث المبدأ.
على أن هذا الذكاء الذي تميّزت به إدارة الدولة الصينية، منذ عهد الرئيس دينغ شياو بنغ، رائد النهضة الصينية المعاصرة، (1978-1992)، وصولاً إلى عهد الرئيس القوي الحالي، شين جين بينغ، لم يولد مصادفة، وإنما بناء على استخلاص الدروس والعبر من سنوات الحكم الأولى في عهد الزعيم الراحل، ماو تسي تونغ (1949-1976) التي اختتمها بسنوات "الثورة الثقافية الكبرى" العشر الثقيلة التي دمرت الحجر والشجر، في بلاد التاريخ المديد والطبيعة الساحرة، وكذلك من استخلاص الدروس والعبر من تجارب "الرفاق" في الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي.
هكذا، شهدت الأسس التي قامت عليها عملية التنمية والنهضة الصينية تطويراً وتعديلاً مستمراً، على امتداد السنوات التي أحرزت فيها الصين نجاحات كبيرة وملفتة، أي منذ 1978، بل ظل "التعديل" بمثابة الأساس الثابت في عملية الإصلاح، بمعنى أن القيمة لم تكن دائماً للفكرة، بل للنتيجة، وهو أمر انسجم مع المبدأ الذي أطلقه الزعيم دينغ، منذ مطلع العام 1978، ومفاده بأن "التطبيق العملي هو المعيار الأوحد للحقيقة"، فلم يتوقف "الابتعاد عن التقديس" عند الماركسية اللينينية، أو عند أفكار ماو، وحسب، بل صار مبدأ ثابتاً امتد إلى أفكار الإصلاح نفسها، بما فيها "نظرية دينغ شياو بنغ" المسماة "اقتصاد السوق الاشتراكي"، أو (الاشتراكية ذات الخصائص الصينية)، إذ شهدت، هي الأخرى، تعديلات كانت جذرية أحياناً، وخصوصاً حين تقرر في أواخر العام 1997، مع بداية عهد جيانغ زيمين والإدارة الجماعية، العودة إلى اتخاذ إجراءات مركزية في إدارة الاقتصاد، بعد أن كانت الصين تتجه في عهد دينغ إلى التوسع في اللامركزية.
هذه التعديلات المستمرة جعلت نظرية "اقتصاد السوق الاشتراكي"، بما هي محاولة توفيق بين أفضل ما في النظامين الاشتراكي والرأسمالي، تبدو غير واضحة المعالم، بل مبهمة المعالم عن قصد، باستثناء خطوط عريضة أساسية، مثل الحفاظ على مبدأ الملكية العامة، وتدخّل الدولة لتقليص الفجوات بين الأقاليم، وتحكّمها بالعلاقات الخارجية، ولعبها دوراً في إعادة توزيع المكتسبات في المجتمع، للحيلولة دون اتساع الفجوات الطبقية. وقد يكون الهدف من الإبهام المقصود إيجاد مجال واسع من المناورة، يسمح بإدخال تعديلات مستمرة على آليات الإصلاح، بما يخدم مقتضيات كل مرحلة، ويحل مشكلاتها، وصولاً إلى خدمة الهدف الأسمى الوحيد، المتمثل بـ"تحقيق النهضة الصينية"، من دون حاجة للقول بتغيير النظرية أو الخروج عليها.
ولعل من دلائل إبهام تلك النظرية أن صياغتها فكرياً تأخّرت حتى العام 1992، بمعنى أن عملية الإصلاح مضت في التطبيق نحو 14 عاماً من دون مرجعية نظرية، كذلك لم تتم تلك الصياغة إلا بطلب من الزعيم دينغ الذي ربما أرادها دليلاً للقيادات الصينية من بعده، حفاظاً على المنجزات التنموية التي تحققت، ثم لمّا صيغت وصدرت عن الحزب الشيوعي، فإنها لم تتخل عن الإبهام، والعموميات، وإتاحة المجال للمناورة.

أطر عامة
هذا ما يمكن تبيّنه من الأطر العامة الفضفاضة لمعظم الإجراءات التي قام عليها الإصلاح، أي التي يمكن اعتبار التعديلات والتغييرات متوافقة معها دائماً، أياً كان اتجاهها. ويمكن تحديد الأطر العامة على أنها:
1- السعي إلى الدمج بين أفضل ما لدى الاقتصاد الرأسمالي الحر من قيم، مثل الإقبال على العمل وحرية التفكير وحماية الإبداع ومكافأة المجتهدين، وأفضل ما في الاشتراكية من قيم، مثل العدالة وتكافؤ الفرص والسعي إلى استقرار المجتمع والتعاون من أجل المصالح الوطنية العليا.
2- التطبيق الحذر للنظريات الجديدة، من خلال تجريبها في مناطق محدودة أولاً، فإذا نجحت تم تعميمها، وإذا فشلت كانت آثارها محدودة.
3- الاعتماد على الواقع مقياساً وحيداً لصحة النظرية من عدمها، ومعياراً وحيداً للحقيقة.
4- وضع ضوابط أخلاقية لحرية العمل، لمنع الفساد والرشوة والغش، عبر التوجيه الفكري المدعوم بسلطة القانون.
5- تقديم مصلحة الشعب على الالتزام الحرفي بأيديولوجية الحزب الحاكم، وإجراء مراجعات فكرية مستمرة لتلك الأيديولوجية، بحيث تظل منسجمة مع مصالح الشعب وحاجاته المستجدة.
6- الإبقاء على الدور الاجتماعي للدولة، خصوصاً تجاه الشرائح والمناطق الفقيرة، باعتباره واجباً لا يقل أهمية عن واجبها في توفير بيئة مناسبة للإنتاج والربح.
7- الحفاظ على مكانة الدولة إطاراً رقابياً ومرجعياً، مع منح الحرية الاقتصادية والفكرية الكاملة داخل هذا الإطار، ويستتبع ذلك الدمج بين العام والخاص في أنظمة العمل.
8- تقنين واجب الأغنياء تجاه الفقراء، بحيث يكون مُلزماً وخاضعاً لرقابة الدولة ومساءلتها، حفاظاً على وحدة المجتمع وتناغمه.
9- الانفتاح على العالم الخارجي، والاستفادة من كل الخبرات والمنجزات الإنسانية، مع رعاية الإرث الثقافي المحلي والاعتزاز به.
10- توفير سبل الرفاه للناس، مع الاهتمام بالجوانب الروحية لديهم، تجنباً لشيوع حالة "عبادة المال"، لما لها من آثار سلبية على القيم وعلى وحدة المجتمع.
11- التحرك دوماً من خلال "برنامج عمل"، محدد الأهداف وواضح الخطوات، مع تقييم المنجزات والإخفاقات باستمرار، بما يضمن ثقة الشعب بإخلاص القيادة السياسية، ومن ثم تصرّفه كـ"أمة عاملة"، في ظل تكريس قيم الاعتزاز الوطني.

12- عدم التنكر للماضي، والاستفادة من العبر التي تقدمها نجاحاته وإخفاقاته، واعتبار المراحل المتعاقبة منجزاً تراكمياً يكمل بعضه بعضاً، بحسب ما يستجد من ظروف وما يحدث من تطورات في تاريخ البشرية.
13- إجراء إصلاحات سياسية موجّهة ومدروسة، بالتوازي مع الإصلاحات الاقتصادية، ومن أجل إنجاحها وضمان تطبيقها.
14- التصدّي بحزم لمحاولات تخريب البرنامج النهضوي الوطني، خصوصاً من جهة التدخلات السياسية الخارجية، والاضطرابات الداخلية المدعومة خارجياً.
15- الاهتمام بالقوة الدفاعية العسكرية، وتطويرها باستمرار من نواحي السلاح والتنظيم والعقيدة، باعتبارها حامية المشروع النهضوي الوطني، ومصدراً لتعزيز المكانة الدولية للأمة.
16- الاهتمام بتحقيق وحدة أراضي الوطن واستقلاله، وعدم التصلّب إزاء الخطوات العملية الممكنة لتحقيق هذا الهدف الوطني، ولو انطوت على كمٍ كبير من الصيغ غير المعهودة.

إلى الليبرالية
هكذا، وعلى الرغم مما تنطوي عليه هذه الأطر من مبادئ وثوابت، إلا أن عمومية معظمها حالت دون تحوّلها إلى "أيديولوجيا". بل يمكن القول إن عملية التنمية والنهضة في الصين كانت حسّاسة ضد كل أنواع الأيديولوجيا: الاشتراكية والرأسمالية، فلم تتجاوز النمطية الاشتراكية الصارمة وتنتقدها وحسب، بل أعادت تقييم مسار التنمية (في منتصف التسعينيات) حين بدا أن البلاد تمضي إلى النمط الليبرالي، مع تضاؤل دور الدولة وتحرر الاقتصاد من القيود والأنظمة، بهدف الحفاظ على المسار الوسطي الذي يُضمّن الاشتراكية مبادئ اقتصاد السوق، من دون نمطية جاهزة أو مسلّم بها.
لم يجد هذا المنطق البراغماتي حرجاً في تجاهل النقد الأيديولوجي الذي ظلّ يوجّه لعملية الإصلاح الصينية، في وقت كانت النتائج في الواقع تؤكد صحة توجهات العملية التنموية في الصين، بحسب مختلف المؤشرات والأرقام، وفي مقدمتها نسب النمو التي ظلت طوال سنوات الإصلاح تدور حول نسبة 10%، وهي نسبة مرتفعة جداً بالمقاييس العالمية كافة، وظلت، هي الأخرى، خاضعة لإدارة الدولة، من خلال تحكمها بعملية إنتاج السلع صعوداً وهبوطاً.
قد يكون مستبعداً أن تعود الصين إلى نمطية الحكم الشمولي، حتى لو كان يحكمها اليوم رجل قوي، صاحب كاريزما مختلفة عن سابقيه من رؤساء ما بعد عهد الإصلاح. لكن من يدري. الصين تتغير كل يوم.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.