الأمم المتحدة وعثرات الحل السياسي في ليبيا

20 يونيو 2015

ليون بعد جلسة تفاوض بين طرفي الأزمة (مارس/ 2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
تسعى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى تطوير الحل السياسي، سبيلاً للخروج من الأزمة السياسية، وتكشف المسودة الأخيرة، والصادرة في 8 يونيو/حزيران 2015، عن اتساع آفاق التعامل مع مقترحات الكيانات السياسية. وتتجه البعثة الدولية إلى استيعاب تطلعات كل الأطراف، لكنها تثير، في الوقت نفسه، تساؤلاتٍ كثيرة حول قدرة مسار الحوار الوطني على الخروج من نفق "الهيئة التأسيسية" وتسوية القضايا الأمنية والسياسات الدفاعية، حيث تعتبر حجر الزاوية في الدخول الآمن لمرحلة انتقالية جديدة. 

بين الدولة والسلطة الانتقالية
وبشكل عام، تطرح المسودة صيغة تقليدية لمفهوم الدولة القومية، تقوم على الفصل بين السلطات واحتكار الشرعية (فقرة 12)، وذلك بعد انهيار المؤسسات وفقدان الدولة المقومات الأساسية للسلطة والقوة الآمرة، ونظراً لأن الصراعات أنهكت المؤسسات الليبية وقسّمتها، لم تكن الإشارة إلى خصائص الدولة القوية متناسبة مع الحالة الليبية، ولا تتسق مع تعقيدات الواقع السياسي والانقسام الاجتماعي، قد يكون حل هذه التناقضات من خلال المعالجة المحدودة التي طرحتها التوجهات العامة للمسودة، عندما أقرت بأن التكامل بين السلطات ( فقرة 9 ) يقلل من حدة الانفراد بالسلطة، وبحيث تكون صناعة السياسة عملية مشتركة بين المجلس والحكومة ومجلس الدولة.
ويكشف الاتجاه العام لمحتوى "مسودة بيرناردينو ليون" الرابعة عن وجدود خلط بين مقتضيات الحالتين، الانتقالية والدائمة، بحيث يمكن القول إن الاتجاه العام يسير نحو تكوين إطار قانوني، يتسم بالدوام وتكرار الالتزامات الواردة في الإعلان الدستوري. لعل التوسع في تشكيل اللجان الدائمة يسبب حالة من الصراع وعدم الاستقرار، حيث تشير خبرة الفترة الانتقالية الماضية إلى قصور اللجان التي شكلتها الحكومة، أو المؤتمر الوطني، عن تحقيق مهامها، وهي أسباب ترجع إلى الصراع السياسي، ويمكن القول إن تكرار تلك التجارب لن يؤدي إلى تحسين دور المؤسسات العامة، ويحتمل أن يشكل عبئاً على الحكومة.


مجلس النواب
اعتبرت المسودة أن "مجلس النواب" هو السلطة الوحيدة (م 7)، وقد شهدت هذه الجزئية جدلاً كبيراً بسبب بطلان الانتخابات التشريعية (يونيو/حزيران 2014). ولذلك، اتجه المقترح إلى تقييد سلطاته، بحيث تصدر القوانين والقرارات المصيرية، بمشاركة مجلس الدولة (120 عضواً) وحكومة التوافق، حيث وضعت (م 1/ 5) قيداً على سلطة مجلس النواب، في سحب الثقة من حكومة "التوافق"، عندما اشترطت موافقة ثلثي أعضاء مجلس الدولة على إقالتها.
ولم تتناول (م 16) الدعوة الصريحة لإعادة تشكيل مجلس النواب، فيما أشارت، تحديداً، إلى إعادة تشكيل اللجان الفنية ومراجعة التشريعات الصادرة والنظام الداخلي، وهي إجراءات لا تتصدّى للمشكلات التي أدت إلى المسارعة بانعقاد المجلس في 2 أغسطس/آب 2014، وانقسام السلطة التشريعية في 25 أغسطس/آب من العام نفسه، ويمكن القول إن اقتصار المعالجة على إعادة تشكيل المجلس، والمراجعة الشكلية لتشريعاته، يعد معالجة عرضية لا تكفي لاحتواء الانقسامات المعقدة، سواء ثوار فبراير أو أنصار النظام السابق، وهي تفتقر لحياد الدولة.

مجلس الدولة
وتناولت المواد ( 19 – 28) الترتيبات الخاصة بصلاحيات مجلس الدولة وتشكيله، حيث يمارس صلاحيات تشريعية ورقابية، تقلل من انفراد مجلس النواب بالقرار السياسي أو التشريعات. ويمكن هنا الإشارة إلى جانبين مهمين. يتعلق الأول بانتقال الدور التشريعي للمؤتمر الوطني إلى مرحلة جديدة، يساهم فيها بدور رقابي على تنفيذ المرحلة الانتقالية، وإنضاج السياسات العامة وتطوير مؤسسات الدولة، وهي مهمة افتقرت إليها المرحلة الانتقالية السابقة، ويرتبط الجانب الثاني بتركيبة المجلس، والذي يتكون من 90 عضواً، يتم اختيارهم من بين أعضاء المؤتمر و30 عضواً من الشخصيات العامة والخبراء، ويراعى في اختيارهم التمثيل المناسب للجهويات والمكونات الثقافية؛ الأمازيغ والطوارق والتبو.

الهيئة التأسيسية
وعلى الرغم من أن عدم انتهاء الهيئة التأسيسية من مشروع الدستور كان عاملاً رئيسياً في احتدام الأزمة، ترك مقترح الأمم المتحدة الباب مفتوحاً أمام استمرار الهيئة، وتوفير البيئة المناسبة لها (م51)، على الرغم من شكاوى أعضاء كثيرين من أن سبب تأخر مشروع الدستور يرجع إلى سوء الإدارة منذ تشكيلها، وهناك احتمال أن استمرار الهيئة سوف يشكل أهم المعضلات الانتقالية، ليس فقط بسبب تضخم صلاحيتها، ولكن، أيضا، بسبب غموض طريقة إدارتها واتساع انقساماتها الداخلية. وبالتالي، سوف يؤدي تأجيل الحسم بشأنها إلى إثارة أزمات سياسية كثيرة، تطيح الفرص المحتملة للاستقرار.
وتشير المادتان 22 و23 من المبادئ العامة إلى توجه الحوار الوطني نحو الانفتاح على المقترحات التي تؤدي إلى تسوية الأزمة السياسية، وهذا من شأنه خفض حدة الاحتقان، والمساهمة في تعزيز الثقة بين الكيانات السياسية، فبجانب حدوث تغيرات جوهرية عن المسودة الأولى، تضمنت المبادئ العامة رؤى حزب العدالة والبناء لملاحقة مرتكبي التعذيب وتطبيق آليات العدالة الانتقالية، من أجل إعلاء الحقيقة والمحاسبة وتحقيق المصلحة، وجبر الضرر وإصلاح مؤسسات الدولة.

وهم الدولة القوية
يساهم تجاهل تأثير الانقسامات السياسية على قوة الدولة في زيادة الغموض حول توفر متطلبات نجاح العملية الانتقالية، حيث سيعزز ضعف سلطات الدولة دور الميراث السلبي للفترات الانتقالية السابقة، ولعل أهمها اهتزاز الإطار الدستوري، وانقسام مؤسسات الدولة، ويبدو أن الصيغة الأخيرة لمقترح الأمم المتحدة أغفلت أن صدور قرارات مجلس النواب تم في ظل الخلاف حول تشكيله، واستمراره في العمل، على الرغم من بطلان الانتخابات.
وهنا، تبدو تناقضات توجهات المسودة نحو الحل السياسي، فبينما تتبنى احترام القانون واستقلال القضاء، فإنها لا تضمن مراجعة التشريعات التي منحت بعض الأطراف ميزات سياسية ودستورية. وفي الوقت نفسه، أقرت العقوبات على من اعتبرهم مجلس النواب خارجين على "الشرعية"، وهي نوع من السياسات الانتقائية والتمييزية، والتي تتطلب معالجةً تساهم في توطيد الثقة مع بدء الفترة الانتقالية.


بناء الثقة والإخلال بها
وتشير المواد المتعلقة بإجراءات بناء الثقة (م 29 – 34) إلى ضرورة تفعيل العدالة الانتقالية، ومنع الاحتجاز خارج نطاق القانون، والامتناع عن التحريض وبث الكراهية، ويكون استخدام الإعلام لدعم المصالحة الوطنية. ووفق المقترح، تعمل الترتيبات الأمنية على تطوير الثقة بين الأطراف المختلفة، حيث تشير (المادة 37) إلى اتخاذ ترتيبات انتقالية، لإعادة نشر المسلحين خارج المدن وسحب السلاح، بحيث تؤدي إلى إنهاء النزاع المسلح.
وتقوم حكومة التوافق بمهمة بسط سلطة الدولة على كل المناطق والمنافذ وتنفيذ المهام الأمنية، وفق القوانين المعمول بها، باستثناء التصدي لمكافحة الحركات المصنفة "إرهابية"، وفق قرار مجلس الأمن، وهي (داعش، أنصار الشريعة، القاعدة)، وتوسعت مسودة الاتفاق في منح الحكومة صلاحيات واسعة في مكافحة الإرهاب الذي يهدد وحدة الدولة، وهي صلاحيات لا تخضع للرقابة الدستورية.
ووفق المواد (42 – 46)، لا يبدو أن الترتيبات الأمنية والعسكرية متوازنة، فهي، من ناحية، ركزت على نشر قوات عسكرية ونظامية في المناطق التي يتم إخلاؤها، ومن ناحية أخرى، تجاهلت ما يتعلق بدمج المسلحين.
تعد الترتيبات الأمنية والعسكرية من العوامل التي تهدد الفترة الانتقالية، حيث إن اتخاذ إجراءات سريعة لإخلاء المدن من المسلحين، وتسليمها للجيش، وتجنب التفاوض بشأن تعيين خليفة حفتر قائداً للجيش، سوف يساهم في اهتزاز الثقة في المشروع الانتقالي.
وكان من الأولى الاهتمام بسياسات الدمج، قبل تنفيذ سياسات التسريح وجمع السلاح، والتي تتم بعملية منفصلة وفق (م 48)، ما يُحدث فجوة ثقة في وقف الصراع المسلح، ويمكن تفسير محاولات "الكرامة" لتوسيع نطاق عمليتها في درنة، وملء الفراغ الناتج عن انسحاب "فجر ليبيا" في المنطقة الغربية، بسبب الهدنة مع "جيش القبائل"، بالاستعداد لزيادة فرصها مع بدء تنفيذ الاتفاق.
ويمثل الالتزام بقرارات مجلس النواب بحل كل التشكيلات المسلحة حسب (م17) إخلالاً بتوفر مقومات بناء الثقة، فالقرارات التي صدرت عن المجلس، في الفترة الماضية، اتسمت بالتحيز، فعلى الرغم من اندلاع الصراع المسلح بين عمليتي الكرامة وفجر ليبيا، فقد أضفى المجلس الشرعية على مسلحي " الكرامة"، وأصدر قرارات أخرى بحل تشكيلات "فجر ليبيا"، وهي سياسات تتعلق بإعادة هيكلة المؤسسة الرئيسية في الدولة، فتعيين خليفة حفتر، قائداً عاماً كان محاولة استباقية لفرض أمر واقع، يدفع باتجاه استبعاد ثوار "فجر ليبيا" وقوات الدروع وهيئة الأركان في طرابلس من المساهمة في تشكيل المرحلة الانتقالية.
تثير هذه الجزئية تراجع حجية الوضع القانوني لقرارات مجلس النواب، فهذا الجدل يستند إلى جانبين، فهناك إشكالات بشأن تمتع القرارات بالدستورية، كما أن صدورها في ظل انقسام المؤسسات لا يساعد على بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، ما يتطلب وجود قانون لدمج المسلحين في الجيش والشرطة، قبل تنفيذ الترتيبات العسكرية والأمنية.
ولعل فكرة الالتزام بقرارات مجلس النواب، قبل إقرارها بشكل نهائي بعد تشكيل حكومة التوافق، يلقي بظلال حول التسارع نحو إخضاع القوات الثورية في المنطقة الغربية، لجهة عسكرية غير واضحة المعالم، وتفتقر للتكوين النظامي، فهي أقرب للمجموعات المسلحة البعيدة عن القانون.

مكافحة الإرهاب
يمكن القول إن إطلاق يد الحكومة الانتقالية في تطبيق قرار مجلس الأمن في مكافحة الإرهاب لا يتسق والتوجه نحو المصالحة السياسية والعدالة الانتقالية، فكان من الممكن إدماج مسألة الحركات الإرهابية ضمن الترتيبات الانتقالية، وفتح الطريق أمام انخراطها في المسار السياسي. وهذا التناول يضعف السياق العام للحوار الوطني الذي جعل كل القضايا تخضع للنقاش وإعادة النظر. وبالتالي، قد يساهم توسيع مناخ الثقة أمام الحركات الجهادية للانضمام للمسار السياسي، في زيادة التضامن حول استقرار الفترة الانتقالية.

ويمكن قراءة المسودة الرابعة من وجهة أنها بمثابة إعادة طرح للتعديلات الدستورية (مقترحات لجنة فبراير)، والتي تم إقرارها في مارس/آذار 2014. قد يثير هذا التوجه إشكالات دستورية وسياسية من جانبين، فمن الناحية الدستورية، يتصادم هذا التوجه مع قرار المحكمة العليا إلغاء تلك التعديلات والآثار المترتبة عليها. ومن الناحية السياسية، تحمل المسودة، في طياتها، بذور الانقسامات السياسية بين الأطراف المختلفة.
ويوضح الاتجاه العام للمسودة أنها اقتربت من وضع إطار لتسوية الأزمة، لكن مسألة نضج الثقة سوف يتوقف على وضع صيغة مقبولة لبناء الجيش وجمع السلاح لدى كل الأطراف. قد تتطلب هذه الخطوة تغيير قرارات مجلس النواب الخاصة بإعادة تعيين عدد من الضباط، ووضعهم في مواقع قيادية، بما يشكل إجراءات مسبقة تصادر فرص الوصول إلى اتفاق نهائي حول الفترة الانتقالية.
وبينما وافق المؤتمر الوطني و"العدالة والبناء" على مقترح مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، بيرناردينو ليون، الأخير، فقد اعترض مجلس النواب على وجود جهات أخرى، تشاركه في عملية التشريعات، حيث اعتبر أن الصيغة المقترحة تطيح دوره سلطة وحيدة في الدولة. وذهب إلى التهديد بمقاطعة جلسات الحوار، كما عزل مستشاريه، ما يعبر عن إدراكه تراجع نفوذه السياسي، خصوصاً بعد الخسائر التي يلقاها حفتر، وفقدانه الكثير من التأييد الجهوي والاجتماعي في المنطقة الشرقية.
ويمكن القول إن تطوير بعثة الأمم المتحدة صيغة الحوار الوطني، واستيعابها كل الأطراف، يعكس درجة من المرونة، يمكن أن تساهم في تهيئة الظروف لنجاح الفترة الانتقالية، لكن المضي في هذا المشوار يتوقف على مدى قدرتها على التخلص من سلبيات الميراث السياسي، وتقليل حدة الصراع في ليبيا.
وعلى الرغم من التطور الذي شهده مقترح الأمم المتحدة، فإن بناء الثقة ما يزال يتطلب وضع صيغةٍ، تستوعب كل الأطراف في تشكيل السياسة الأمنية والدفاعية، ويمكنها الاقتراب من دولة المواطنة. وبالنظر إلى صيغة الحوار الوطني، يبدو أن هناك فرصة للتغلب على التناقضات السياسية، بإعادة النظر في دور الهيئة التأسيسية، سواء بتشكيلها مرة أخرى، أو اضطلاع لجنة الحوار بإعداد مشروع الدستور. ولعل هذا المدخل في التفكير لحل الأزمة السياسية يساهم في تجنب إشكالات دستورية وسياسية راهنة، والتي تؤدي إلى تفكك بنية الدولة، وتساهم بشكل واضح في تنامي الصراعات المسلحة. يتوقف نجاح الحوار الوطني على قدرته في إحداث قطيعة مع المناخ الذي ساهم في تنامي بذور الأزمة، بحيث يكون دور الحوار الوطني تأسيسياً لمرحلة دائمة، ومتجاوزاً كل الأخطاء التي سادت المرحلة السابقة.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .