تحدٍ جديد يُقصي قضية فلسطين
لو أن مسحاً إحصائياً جرى، هذه الأيام، لحجم متابعة الأخبار والتقارير والصور المتعلقة بقضية فلسطين في العالم العربي، مقارنة ببقية الأخبار والتقارير والصور، فإن النتيجة ستشهد على تراجع حاد في متابعة الشأن الفلسطيني، لا يعود إلى "كفر" بهذه القضية وانسلاخ عنها، فقد أملته ظروف موضوعية، بدأت مع موجة الربيع العربي في خريف 2010. انشغل الرأي العام العربي، آنذاك، بتطورات تلك الموجة التي شهدت أول انتفاضات شعبية ذات طابع مدني سلمي غير حزبي. والفلسطينيون أنفسهم الذين يقيمون في بلدان عربية شتى انشغلوا، مثل غيرهم بذلك الحدث الكبير الممتد، لأن ظروف حياتهم مرتبطة بالأوضاع العربية من جهة، ولأن التغيير يمثل هاجساً وحلماً للفلسطينيين، إعمالاً للبعد القومي في الصراع مع عدوهم الصهيوني من جهة ثانية. أما أبناء الشعوب العربية في دول الربيع، فقد تعرضوا، تحت ضغط التطورات، إلى ما يشبه الانفكاك الذهني عن متابعة الوضع الفلسطيني، والذي حدث بعدئذٍ، أي بعد نحو 54 شهراً، أن هذا الانفكاك أخذ يتحول من حالة مؤقتة إلى حالة شبه دائمة. وفي بعض أسباب ذلك أن فلسطين لم تشهد ربيعها الخاص، أسوة بتونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، ربيع ذو طابع خاص يتجه إلى الانتفاض على المحتلين، أولاً، ويعيد، في طريقه، بناء السلطة في رام الله وغزة، ويوحّد بين شطري الوطن، وهو ما لم يحدث.
ما انفكّت المجريات المتسارعة في العالم العربي تقصي الشأن الفلسطيني عن صدارة الاهتمامات السياسية، سواء لدى الأنظمة أم الشعوب أم القوى المسيسة، باستثناء صدور بينات موسمية، مثل ذكرى يوم الأرض، أو ذكرى وعد بلفور. والحديث، هنا، عن انخفاض ملحوظ في الانشغال والمتابعة، وليس عن فك ارتباط سياسي أو ثقافي بالقضية. يبدد هذا التطور الوهم بأن القضية هي، على الدوام، القضية "المركزية" للعرب. فالمركز هو ما يلامس الحاجات اليومية والحسية للناس، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ودواء وأمن فردي وجماعي، والمركز، أي الاهتمام المركزي، هو ما يتعلق بطبيعة النظام القائم، وأدائه إزاء شعبه على مختلف المستويات. فإذا ما تم استيفاء هذه الحاجات إيجاباً، وإذا استقرت الشرعية السياسية للأنظمة، بطريقة مؤسساتية وعصرية، فإن المواطن العربي يجد، خلالئذٍ، من الطاقة ما يسعفه على الاهتمام الجدي بالشأن القومي الذي يشمل أساساً قضية فلسطين، لكنه لا يقتصر عليها، فالشأن القومي هو كل ما يتعلق بالبلدان والشعوب العربية، كما يبسط ذلك الفكر القومي التقليدي الذي يستعين بالشعارات، ويحتكم إلى الرغبات، بديلاً عن الوقوف أمام تعقيدات الأوضاع العربية.
فالمواطن، في المشرق والمغرب العربيين، تضغط عليه حاجياته الملموسة التي تصوغ أولوياته، وحتى المواطن الفلسطيني في الدول العربية، وكذلك في المهاجر، تجعله حاجاته وظروف حياته منشغلاً واقعياً بأمور ذلك البلد الذي يقيم فيه بالدرجة الأولى. تلك هي البوصلة! والقول إن أية بوصلة لا تتجه مباشرة إلى فلسطين خاطئة شعار غنائي. بمعنى أنه عاطفي، يخاطب الوجدان الحالم بأكثر مما يستبصر الواقع. والدليل على مجافاة ذلك الواقع موجة الربيع نفسها التي حملت، في كل بلد، مطامح وطنية داخلية. ومن السخف تخطئة الشعوب على سعيها إلى امتلاك مصيرها داخل حدود بلدها. هناك، بطبيعة الحال، رابط موضوعي بين التحرر السياسي والديمقراطي العربي وإدارة الصراع مع العدو وإدامة هذا الصراع. وهذا يعني أن تحرر الشعوب العربية من القمع والفاقة والتهميش السياسي، ومن الانزواء عن العصر، مدخل للانشغال بقضية فلسطين وللعطاء لها. علماً أن هذا الرابط الموضوعي لا يمتلك فاعلية ذاتية، أو قوة دفع قائمة بذاتها، في جميع الأوقات والأحوال، فلا بد أن يكون الأداء الفلسطيني نشطاً وحيويا ومنتجاً، يثير الاهتمام، ويستدعي التفاعل معه. والأداء المقصود هنا يتصل بالفصائل والأحزاب والأجسام الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا يتصل بالمستوى القيادي للسلطة فقط، خصوصاً أنه استقر في أذهان الشطر الأكبر من الرأي العام العربي أنه بات للفلسطينيين قرارهم الوطني الخاص بهم، والمتعلق بقضيتهم، وأنه لا يسع طرف شعبي عربي، مثلاً، التأثير على المسار الفلسطيني، ولو إيجاباً، من دون استجابةٍ، أو حتى مبادرةٍ، من أصحاب الشأن أنفسهم.
وبالنظر الى التحديات والتحولات التي يشهدها الواقع العربي، في السنوات القليلة الماضية، لم يتوقف الأمر على موجة الربيع وتداعياته، إذ شهد العالم العربي، خلال هذه الفترة، اختراقا خارجياً جسيماً، تمثل بالاختراق الإيراني لدول ومجتمعات عربية، وما زال يشكل تحدياً راهنا ومعقداً للأمن القومي العربي، لما يتّسم به هذا الاختراق من لعب على ميول المكونات الاجتماعية/ الطائفية مصالحها، واستمالة لها، بل وتجييش لها، بالمعنى الحرفي لا المجازي. ولأن قوى سياسية وحزبية، بعضها مصنف ضمن تيارات قومية ويسارية، لا تجد حرجاً في قبول هذا الاختراق، والترحيب به والسعي لتسويغه، وشق الطريق أمام تقدمه في عمق المشرق العربي، وذلك نكاية بأميركا والغرب! هذا الاختراق الذي شهد انكشافاً، مع بدء الانتفاضة السورية في مارس/آذار 2011، ووقوف طهران إلى جانب النظام في حربه على شعبه، علماً أنه سابق على هذا التاريخ، أعاد ترتيب أولويات الأمن القومي، ومنح هذا التحدي أولوية راهنة، ظلت طي الكتمان، حتى اندلعت في حرب عاصفة الحزم ضد الانقلابيين الحوثيين، أداة طهران وذراعها في اليمن، على تخوم الجزيرة العربية.
سيكون أمام الجانب الفلسطيني، إذا ما شاء اجتذاب الاهتمام الشعبي والرسمي العربي مجدداً إلى قضية فلسطين واجب صياغة موقف سياسي، يستجيب لهذه التطورات، ويتفاعل إيجاباً معها، بدلاً من اتخاذ موقف سكوني متباعد عن هذه التطورات، وإن كان هذا الموقف يميل إلى الاعتراف بالتحدي الإيراني، والتأييد المبدئي للوقوف ضده، على أن ذلك قد لا يكون كافياً في مقبل الأيام القريبة، على الأقل انسجاماً مع أدبياتٍ ما زالت تمتلك صحتها، منها على الخصوص أن الأمن القومي العربي لا يتجزأ. وسوى ذلك، أي مع الاعتصام بالحياد "الإيجابي"، وخفوت الصوت، فسوف يبدو الساسة الفلسطينيون منغلقين على قضيتهم، والشأن الخاص بهم، ما يثير ردة فعل في اتجاه معاكس نحوهم. وبهذا، فالمهمة التي تقع على عاتق العقل السياسي الفلسطيني هي اكتشاف حلقات مشتركة بين مقتضيات الانتصار لقضيتهم الوطنية والتعامل مع التحدي القومي الجديد (الإيراني) الذي فرض "نفسه" على الواقع العربي.