انتخابات الأردن... توقّعات متضاربة
في أجواء تمتزج فيها الشكوك بالآمال، وضعف الثقة بالفضول، يشهد الأردن الثلاثاء المقبل (10 سبتمبر/أيلول الجاري) انتخاباتٍ نيابيةً، هي العشرون في المجالس النيابية المُنتخَبة، وسط تحشيد للمُترشّحين الذين يقترب عددهم من الألف، ومشاركة نشطة لـ25 حزباً معظمها غير معروف للجمهور، وأكثرها تشكَّلَ العامين، الجاري والماضي. وفي وقت تُخيّم فيه على البلاد مشكلاتٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ صعبةٌ منها الارتفاع الكبير في نسبة البطالة، التي تناهز ثلث القوى المؤهّلة للعمل، فيما تُلقي الحرب في غزّة (وفي الضفّة الغربية) بظلالها الثقيلة.
ومع هذه البيئة العامّة المحيطة، التي تبدو غيرَ مشجّعةٍ، فإنّ آمالاً أوّليةً تساور عاملين كثيرين في الحقل العام، ومن المُسيَّسين عموماً، ومن الطامحين اجتماعياً بأن تكون مُخرَجات هذه الانتخابات أفضل من سابقاتها، وأن تنحسر ظاهرةُ العزوف عن الاقتراع (شاركت في انتخابات 2020 نسبةٌ لامست 30% فقط). ومبعث التفاؤل النسبي المرّة هذه يستند إلى أنّ الانتخابات ستجري وفق نظام جديد يتيح للأحزاب الوصول إلى 41 من مقاعد مجلس النواب الـ138. وهي المرّة الأولى التي تُمنح فيها التنظيمات السياسية هذا الحقّ، إذ كان الترشيح الفردي في ما سبق، ومع ضيق السلطات بالمشاركة الحزبية فيها. وقد جاء هذا التطوّر وفق برنامج التحديث السياسي، الذي حظي بدعم ملكي ملحوظ. وقد جرى التوافق لدى اللجنة التي أعادت النظر في قانون الانتخابات على أن يرتفع عددُ مقاعدِ الأحزاب في الدورات اللاحقة، وعلى نحو يتيح تشكيل حكومات حزبية، وبما يُؤدّي، حُكماً، إلى تشكيل مُعارَضةٍ حزبيةٍ داخل مجلس النواب وخارجه، وبما يضع التصعيد السياسي في سكّةٍ موضوعيةٍ، ويحدّ من المحاصصة المناطقية والجهوية في تشكيل الحكومات، ما طبع مسيرةً طويلةً من تأليف الحكومات، في غياب مراقبة برلمانية وشعبية فاعلة لأداء السلطة التنفيذية.
ومن المفارقة أنّ الترقّب الممزوج بالحماسة يسود أجواء الناشطين والمناطق خارج المدن الكبيرة، ويقابله تشتّت في توجّهات أبناء العاصمة والمدن الكبيرة، مع انخفاضٍ عامٍّ في الاهتمام بالحدث، وهو ما توقّعه واضعو القانون الجديد، وجرى السعي إلى تفاديه بمنح شريحة الشباب نسبةً مُعتبَرةً، لتضمّ القوائم الحزبية شابّاً وسيّدتَين في المراكز الستّة الأولى للترشيح، من أجل توسيع قاعدة المشاركة باجتذاب هاتَين الشريحتَين، فضلاً عن تمكين الشباب والنساء من الوصول إلى مقاعدَ مضمونةٍ. ويذكر أنّ نظام الكوتا النسائية ما زال معمولاً به، ما يمنح فرصاً كبيرةً للمترشّحات، عبر التنافس الفردي وضمن القوائم الحزبية ووفق نظام الكوتا معاً.
ترقّب عام يخالطه الفضول يكتنف التجربة الانتخابية الأردنية الجديدة
ويسترعي الانتباه أنّ السلطات تبذل جهوداً كبيرةً لدفع الناخبين للتوجّه إلى مراكز الاقتراع، وقد جرى اعتبار يوم الانتخاب عطلةً رسميةً، وسط تغطيةٍ إعلاميةٍ رسميةٍ كثيفةٍ ولوحاتٍ في الشوارع تحمل عبارة "ما إلك إلّا الصندوق"، مع أنّ مهمّة ترويج العملية الانتخابية منوطة بالأحزاب والمُترشّحين، وليس بالحكومة التي تقوم بدور تنظيمي في العملية. وقد لوحظ أنّ السلطات أبدت تشدّداً إزاء ظاهرة المال الأسود، وأطلقت تحذيراتٍ مُتكرّرةً بشأن محاولة شراء الأصوات، وأوقفت عدداً من الأشخاص. وثمّة انطباعات عامّة بأنّ أحزاباً جديدة نشأت بالتفاهم مع السلطات، وحظيت بتبرّعات مالية كبيرة، ما مكّنها من القيام بحملات انتخابية واسعةٍ وترشيح عددٍ كبيرٍ من المترشّحين في سائر المناطق، وكذلك ضمن المنافسة الحزبية، وهو أمر "مفهوم" ومتوقّع في الديمقراطيات الناشئة (مع أنّ عمر التجربة الديمقراطية الأردنية يتجاوز ثلاثة عقود)، في وقت أتيح فيه لأحزاب المعارضة الترشّح بغير قيود، غير أنّ خطاب المُعارَضة يصل إلى دوائر ضيّقة، كما أنّ تحالفات هذه المُعارَضة غير واضحة، ومن دون أنّ تتلّقى الأحزاب تمويلاً لحملاتها، إذ تتلقى التمويل بعد أن تتمكّن من الوصول إلى مقاعد البرلمان، ووفق ما أحرزته من نتائج، وليس لتغطية الحملة الانتخابية كما هو معمول به لدى دول عربية (مثل المغرب)، مع استمرار بعض المظاهر التقليدية التي رافقت الانتخابات عقوداً مثل إقامة الولائم، وهو ما لاحظته الهيئة المولجة تنظيم الانتخابات (الهيئة المستقلّة للانتخابات)، إذ وعد رئيسها موسى المعايطة بمنع إقامة هذه المظاهر، ابتداءً من الدورة اللاحقة، لأنّها قابلةٌ لأن تُصنّف من أشكال الرشى.
نظام الكوتا النسائية ما زال معمولاً به، ما يمنح فرصاً كبيرةً للمترشّحات، عبر التنافس الفردي وضمن القوائم الحزبية ووفق نظام الكوتا معاً
ومع أنّه سرت توقّعات (ومحاذير) بأن تسيّس الحملات الانتخابية على نحو كبير، وأن تشهد هذه المناسبة خطاباتٍ وسجالاتٍ ساخنةً بشأن حرب الإبادة على غزّة، وشمال الضفّة الغربية، تثير حميّة الجمهور، إلّا أنّ الهاجس السياسي بدا خافتاً (على غير المتوقّع) مع التركيز في الشؤون المعيشية أو الشعارات العامّة، وحتّى الإنشائية، وقد انشغلت قلّةٌ قليلةٌ من الأحزاب، أبرزها الإسلامية، بهاجس تعزيز صمود غزّة، والدعوة إلى اتّخاذ مزيدٍ من الإجراءات الرسمية ضدّ دولة الاحتلال، فيما استثمرت أحزابٌ أخرى في الضائقة المعيشية والاقتصادية، وعرض بعضها خرائطَ طريق مهمّة للخروج من هذه الضائقة، وهو ما يجتذب جمهرةً عريضةً من الناخبين، الذين يبدون في حالةٍ من الضنك والحيرة أمام غلاء المعيشة، وتآكل دُخولِهم، وسط سيلٍ لا ينقطع من وعودٍ رسميةٍ بتحسين الأوضاع. وفي واقع الحال، إنّ تحسناً طرأَ على المداخيل في آخر عقد، ومن مظاهره رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 260 ديناراً شهرياً، غير أنّ أرباب العمل لا يلتزمون دائماً بهذا الحدّ في القطاع الخاص، مُستغلِّين حالة البطالة، وإذا التزموا به، فإنّ غلاءَ المعيشةِ يلتهم أيّ زيادةٍ في المداخيل. وهي مشكلة عامّة تتعدّى الأردن إلى دول الجنوب ودول العالم الثالث، ومنها دول عربية عدّة، ولن تجد لها حلّاً سوى بزيادة الإنتاجية العامّة وتطوير الاقتصاد الكلّي، كما فعلت دول آسيوية.
وفي المحصّلة، فإنّ ترقّباً عامّاً يخالطه الفضول يكتنف التجربة الانتخابية الجديدة، مع توقّعات بأن ترتفع نسبة التصويت عما سبق من دورات، ولسان الحال يكاد ينطق: هناك جديدٌ ما، دعونا نرى ونحكم.